وضع "مستقبل ويب" في مقال "أسئلة 14 آذار" الأصبع على جرح المآخذ المتبادلة بين مكونات الحركة الاستقلالية، ودخلت إلى جوهر وصلب النقاشات العميقة حول مرحلة غنية بأحداثها وتطوراتها، وتأسيسية لمرحلة جديدة في تاريخ الوطن، وتحدثت عما قد يكون ارتكب فيها من أخطاء في الخيارات والمواقف والتحالفات والتقديرات.
وأهمية تساؤلاتك انها تختصر كل المحطات "الخلافية" الداخلية والتي انقسمت فيها الحركة الاستقلالية بين هذا الخيار او ذاك تبعا لما ورد في متن التساؤلات نفسها، ولكن هذا الانقسام بقي في كل المراحل تحت السيطرة باستثناء المرحلة الأخيرة التي سمح فيها البعض لنفسه بالتخوين أو بالمزايدة بالحد الأدنى، الأمر الذي كنا نتمنى عدم حصوله، لأن هذا المنطق مرفوض جملة وتفصيلا، ولأن القوى السيادية لا تملك ترف الخلاف فالانقسام.
وعلى رغم أهمية المراجعة السياسية المطلوبة في كل وقت، إلا ان وجهات النظر ستبقى، ويا للأسف، منقسمة وهي نفسها تقريبا، وهذا لا يعني إقفال باب المراجعة، إنما المطلوب ان يمارس كل طرف قناعاته، وهذا حقه الطبيعي، ولكن مع التشديد على ضرورة الابتعاد عن التخوين والمزايدات، إلا في حال قرر البعض "كسر الجرة" فيكون لكل حادث حديث.
فمن الصعب الوصول الى قراءة مشتركة للماضي، فضلا عن انه يستحيل الجزم بانه لو اتخذ مثلا هذا الاتجاه بدلا من ذاك، فهل كان تبدّل مسار الأمور باتجاه الأحسن ام الأسوأ؟ وطالما لا إجابة حاسمة فمن الأفضل ترك الأحكام للتاريخ.
ولكن هناك دائماً اندفاعة اللحظة والانطلاقة السياسية والاستفادة من "المومنتم" السياسي من اجل تحقيق الأهداف المرجوة وبالضربة القاضية، فما كان يمكن تحقيقه في زمن ١٤ آذار ٢٠٠٥ سيتعذر بعد ذلك، فهل كان يمكن مثلا الاستفادة من الدينامية الدولية والشعبية ليس فقط لإخراج الجيش السوري من لبنان، بل لدفع "حزب الله" أيضا إلى تسليم سلاحه للدولة اللبنانية وإنهاء مفاعيل الانقلاب على اتفاق الطائف وإعادة الاعتبار الى الدولة ودورها؟
لا شك ان "حزب الله" كان تحت وقع الصدمة، صدمة الاندفاعة الخارجية والداخلية، وبالتالي في هذه اللحظة بالذات كان يمكن توظيف دور الخارج وحماس الداخل من أجل إنهاء حقبة الوصاية بكل مفاعيلها وليس الاكتفاء بخروج جيش الأسد، ولكن هناك من اعتقد عن خطأ ان الخروج السوري سيدفع الحزب الى تسليم سلاحه، وهناك من راهن أيضا على لبننته.
فالخطيئة الأصلية، إذا كان يمكن تسميتها كذلك، تتعلق بتفويت لحظة اندفاعة انتفاضة الاستقلال التي حظي فيها لبنان بأوسع تعاطف دولي والتفاف شعبي، فكان يمكن الذهاب الى النهاية ومهما كان الثمن، فالاستقلال لا ينتزع على دفعات، بل بدفعة واحدة وفي اللحظة المواتية.
وبمعزل عن وجهة النظر القائلة بانه كان يجب التركيز على النظام السوري وتحييد "حزب الله" كونه يستحيل مواجهتهما معا، وهذا مجرد تبرير لان الحزب أضعف من النظام، والحزب الذي انحنى امام العاصفة الدولية كان يمكن دفعه إلى تسليم سلاحه والتحول الى حزب سياسي تحت سقف الدولة، ولكن هناك من فضّل "حزب الله" الذي "نعرفه ويعرفنا وتقاسمنا وإياه الأدوار على مدى ١٥ عاما" على العودة المفترضة للمارونية السياسية التي ستطُّل برأسها من جديد مع الخروج السوري من لبنان، وبالتالي من الأفضل والأنسب الحفاظ على نفس التوازن الداخلي الذي حكم تحت سقف الوصاية السورية ما بعد انتهاء حقبة الوصاية، فكان التحالف الرباعي.
وما تقدّم لا يمكن تغييره كونه ينم عن موروثات وتقديرات وخلفيات وعادات وكلها بحاجة الى الوقت، خصوصا ان هناك من اعتاد على غياب الممثل الفعلي للمكون المسيحي، ويعتبر ان كلفة التفاهم مع "حزب الله" أقلّ بكثير من كلفة التفاهم مع المارونية السياسية، كما يعتبر ان الخلاف مع الحزب مرحلي ومؤقت، فيما الخلاف مع المارونية السياسية تاريخي ومستقبلي، وهذا خطأ فادح طبعا، ومن الواضح انه كان هناك سوء تقدير سياسي وكبير جدا.
فكل فلسفة التحالف الرباعي كانت قائمة على مبدأ الحفاظ على التوازنات التي أرسيت في زمن الاحتلال السوري، ومعلوم ان المكون المسيحي هو الوحيد الذي دفع ثمن هذا الاحتلال بحضوره ودوره وتمثيله وشراكته، وكان من الطبيعي ان يشكل الخروج السوري مدخلا لتصحيح هذا الخلل ليس من اجل عودة هيمنة مفترضة وغير صحيحة، بل من أجل إعادة التوازن الميثاقي الى البلد والذي من دونه لا قيمة للبنان.
فالتمني على المجتمع الدولي تعليق البند المتعلق بنزع سلاح الميليشيات في القرار ١٥٥٩ يندرج في هذا الإطار تحديدا، ولا بأس إذا استلزم التعليق جولة على عواصم القرار لإقناعها بقدرة اللبنانيين على حلّ هذه المسألة بالحوار الذي انطلق من مجلس النواب وانتهى مع حرب تموز ٢٠٠٦ التي وجدها "حزب الله" مناسبة لبداية الانقلاب على مسار ١٤ آذار ٢٠٠٥.
ما حصل قد حصل، وعقارب الساعة لا يمكن إعادتها الى الوراء، واي مقاربة لأحداث تاريخية تستدعي مقاربتها بظروفها وحيثياتها وخلفياتها وأبعادها وليس وفقا للحظة الحالية، وما تقدم مجرد وجهة نظر قد لا تكون صحيحة بدورها، وليس المقصود منها نكء الجراح، إنما التعبير بصراحة عن وجهة نظر وقناعة، فيما القناعة الحقيقية هي في تجاوز كل ما حصل من أخطاء وخطايا مبررة وغير مبررة انما أصبحت من التاريخ ولا يفيد بشيء استحضارها، والتركيز فقط على ما يجمع مكونات ١٤ آذار التي في سجلها الذهبي أعظم مشهد في تاريخ لبنان، وبالتالي التأسيس على هذا المشهد من اجل استكمال معركة السيادة.
وبمعزل عن كل الأخطاء والخطايا فإن الاستراتيجية التي اعتمدت بعد إخراج الجيش السوري تكمن في الحفاظ على الجزء من الشرعية التي انتزعت والعمل على توسيعها وصولا الى الشرعية الكاملة، وهذا الحق لا يمكن التنازل عنه تحت اي عنوان او حجة لإعادة عقارب الساعة الى زمن الوصاية السورية.
والاستقرار هو الجوهرة التي يجب الحفاظ عليها وشكلت أولوية من أولويات 14 آذار، ولا نتحدث عن أي استقرار، إنما الاستقرار الهادف إلى توسيع حضور الدولة ودورها وصولا إلى السيادة الكاملة، خصوصا أن كل فلسفة 14 قامت على المواجهة السلمية وتحت عنوان "العبور إلى الدولة"، حيث ان المطلوب الحفاظ على الدستور وهيكل الدولة بانتظار الظروف التي تسمح بتطبيق الدستور وإعادة الفعالية للدولة، فضلا عن انه يجب مد الناس بسياسة صمود منعا للهجرة في ظل اوضاع حياتية كارثية، فيما 14 آذار كانت باستمرار في موقع رد الفعل من اجل الحفاظ على مكتسبات ثورة الأرز ومنع عقارب الساعة من العودة إلى الوراء، وكانت تدرك استحالة نزع سلاح "حزب الله" بالقوة، كما استحالة إقناعه بتسليمه، وبالتالي الخيار الوحيد هو انتظار ما ستؤول إليه التطورات الخارجية بربط نزاع داخلي يحفظ الاستقرار والدستور والدولة والنأي بالنفس ويمنع تجدد منطق الوصاية.
المرحلة التي أعقبت اغتيال الشهيد رفيق الحريري غنية بأحداثها وتطوراتها والإجابة على كل التساؤلات التي طرحها موقع "مستقبل ويب" تتطلب مجلدات ولا يمكن حصرها بمقالة، وبانتظار ان تظهر بعض خفايا هذه المرحلة التأسيسية للاستقلال الثاني كل التحية لهذا الموقع على مبادرته في فتح النقاش تمسكاً بالحوار وتأكيداً على وحدة الموقف والصف.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.