يظلم المرء إنتفاضة الإستقلال إن إكتفى بعجالة في الكثير من السرعة وربما التسرع. فهذا اليوم من ربيع العام ٢٠٠٥ كان ولا يزال ”مفاجأة“ وطنية لبنانية حتى لصانعيه. وهي من مفاجأة العيار الذي أوقعنا جميعاً في فخ الرغبة الحارقة بتكرارها، وإستعادتها، من دون أن ننجح مرة في ذلك على مر الأعوام التي مرت.
الثورات لا تتكرر، والإنتفاضات سرعان ما تكسر مراياها كي لا تراودها الظلال عن تكرار مبتور. أعتقد أن هذه واحدة من أزماتنا العميقة في العلاقة مع هذا اليوم التأسيسي. إستطبنا التكرار وعزفنا عن المضي في التأسيس، فكانت الأعوام تمر بنوع من إدمان الإستئناف.. إستئناف تلك اللحظة المجيدة في تاريخ لبنان الحديث، من دون مسؤولياتها التأسيسية..
هي كانت واحدة من أسرع الثورات لناحية تحقيق أهدافها.. سيادة حرية إستقلال.. تحققت كلها بطرد جيش الأسد من لبنان في ٢٦ نيسان ٢٠٠٥، لنجد بين أيدينا ثورة بلا برنامج.. كنا واحداً وكنا عديدين في الآن عينه.. كنا ثورة وكنا ثورات.. كنا شعاراً وكنا شعارات.. هاجساً واحداً وهواجس جمة.. كل ذلك تجمع في لحظة واحدة، التبست فيها رغباتنا الدفينة في أن نكون ”لبنانيين“ بهواجسنا أننا لسنا تماماً كذلك.. فاجأتنا الثورة جميعاً، وفاجأتنا نتائجها، وسكننا جميعاً الخوف من بعدها…
أذكر آخر حديث مع سمير قصير قبل يومين من إستشهاده، وكأن عتبه أن الانتفاضة (كان يصر على إنتفاضة وليس ثورة) لم تنجح في إنتاج برنامج إصلاحي.. كان مأخوذاً بزخم هذا النهار المجيد الذي كان أكبر وأجمل مهندسيه.. لم ينتبه سمير أن قوى السيادة ما كانت هي نفسها قوى الاصلاح.. وما كان مقدراً لها أن تكون.. والأصح أنه ما أحب أن ينبته..
حققت الثورة هدفها الأول المعلن بأقانيمه الثلاثة.. ثم كانت المحكمة الخاصة، عبر نضال سياسي وهي الهدف الثاني الذي ولد من دينامية الثورة بعد ترجح بين تحقيق عربي أو تحقيق لبناني..
لم يكن "حزب الله" قد تحول إلى ”العدو“ (وأرجو أن تبقى مفردة عدو في النص) الداخلي الذي سيرث الوصاية السورية على الحياة السياسية والوطنية في لبنان.. وقلة منا تنبهت الى أن الاغتيال جاء في سياق إقليمي كبير، أوسع من الاصطدام بالوصاية السورية.. وأبعد من العداء الذي استحكم بين أغلبية لبنانية وبين نظام الأسد. عدم إدراك الاغتيال في سياقه هذا، ما بعد مفاعيل حرب العراق وإطاحة نظام صدام حسين، ساعد في استسهال التسويات القاتلة وأبرزها التفاهم مع "حزب الله" ضمن ما عرف بالتحالف الرباعي. وقد ترتب على ذلك، إقصاء ”الربيع ضمن الربيع“ وهو الانشقاق السياسي الشيعي الأول بعد استتباب حكم الثنائية الشيعية، واستبعاد ”اللقاء الشيعي“ عن الحيوية السياسية الفعلية لما بعد ١٤ آذار، والاكتفاء بالغزل اللفظي والعلاقة التزينية مع شيعة انتفاضة الاستقلال..
الأهم من ذلك، أن البيئة الإقليمية التي ولدت في كنفها انتفاضة الاستقلال تغيرت جذرياً أسرع من قدرة الانتفاضة وقواها على التأقلم، وكان العصر الإيراني بدأ يثبت أقدامه ومرحلته في لبنان، على قواعد التوسع والمواجهة وبدفع من وصول نخبة إيديولوجية من المحافظين الإيرانيين الجدد إلى سدة الحكم في طهران كان رمزها الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد.
شيئاً فشيئاً ستتضح ملامح التورط الإيراني في إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري من خلال التحقيقات التي كان تجريها شعبة المعلومات في لبنان، وستزداد حدة الإشتباك مع "حزب الله" الذي، تحولت بيئته الشعبية بعد حرب تموز ٢٠٠٦ إلى خيارات ومواقف متطرفة في علاقتها ببقية المكونات اللبنانية لا سيما المكون السني.
ففي خريف ٢٠٠٦، وبعد أشهر قليلة من توقف الحرب، استقال خمسة وزراء شيعة من الحكومة ووزير سادس مسيحي (يعقوب الصراف وهو وزير الدفاع السابق في لبنان) محسوب على رئيس الجمهورية آنذاك اميل لحود على خلفية الموقف من قيام محكمة دولية تنظر في جريمة اغتيال الحريري، ثم بدأ "حزب الله" وحلفاؤه اعتصاماً مفتوحاً استمر نحو عام ونصف العام في وسط بيروت سعى خلاله إلى إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة.
بموازاة التغييرات العميقة التي أصابت الساحة الداخلية اللبنانية بعد حرب تموز ٢٠٠٦، كان للحرب أثار كبيرة على البيئة الإقليمية والدولية التي تتفاعل معها القضية اللبنانية. وفيما كان لبنان في العام ٢٠٠٧ يغرق بالاغتيالات التي طاولت نائبين (السني المستقبلي وليد عيدو، والماروني الكتائبي أنطوان غانم) ومدير العمليات في الجيش اللبناني العميد فرانسوا الحاج، واشتباكات أهلية داخلية، وحرب مكلفة خاضها الجيش ضد عصابة إرهابية مرعية من دمشق في مخيم نهر البارد شمال لبنان، هي عصابة "فتح الإسلام" بقيادة شاكر العبسي، كانت سوريا تتهيأ للخروج من عزلتها الدولية.
ففي خريف ٢٠٠٧ شكلت دعوة سوريا للمشاركة في مؤتمر أنابوليس للسلام في الشرق الأوسط الذي عقد في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني من ٢٠٠٧ في كلية البحرية للولايات المتحدة في أنابوليس، ماريلاند، علامة فارقة ودليلاً على معادلة جديدة لعبت فيها كل من قطر وفرنسا نيكولا ساركوزي، دوراً في إعادة تلميع بشار الأسد واستخدامه لإنتاج أدوار رئيسية في الشرق الاوسط على حساب جورج بوش الذي كانت ولايته الثانية قد تجاوزت نصفها، وبات أسير محاصرة مغامرته في الشرق الاوسط عبر تقرير “بايكر هاميلتون”، الذي شكل اعترافاً رفيع المستوى من قبل أرفع النخب الاميركية بفشل حرب العراق، وهو اعتراف انطوى على تغيير مرتكزات السياسة الخارجية الأميركية.
خسرت ثورة الأرز إثنين من أبرز حلفاء سعد الحريري. خرج جاك شيراك الذي تميزت علاقته بآل الحريري بقرب إستثنائي لطالما أثار حفيظة المسيحيين اللبنانيين الذي إعتبروا أن الحريري سرق منهم العلاقة التاريخية مع “الأم الحنون” فرنسا. وخسرت حيوية جورج بوش الذي أمضى ولايته الأولى وبعضاً من الثانية متحدثاً عن نشر الديموقراطية، وعن لبنان النموذج وقصة النجاح لتصدير الديموقراطية إلى الشرق الأوسط كواحدة من نتائج حربه في العراق!!
وافقت سوريا على تلبية الدعوة للمشاركة في أنابوليس، بوفد رسمي برئاسة فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السوري. وفيما كان لبنان يعاني من ذيول حرب تموز المدمرة لاقتصاده وبنيته التحتية وعلاقات مكوناته الأهلية، ويخوض حرباً ضروس ضد قوى المحور السوري الإيراني، رحبت إسرائيل علناً بقرار سوريا المشاركة في مؤتمر أنابوليس، مؤكدة أنّ هذه المشاركة قد تفتح مساراً للسلام بين البلدين الجارين.
لاحظوا هنا أنه مرّ على إغتيال الحريري، حتى هذه اللحظة، أقل من ثلاث سنوات شهدت كل هذه الانقلابات في البيئة الداخلية والإقليمية والدولية والتي ستشهد انعطافة جديدة في مايو أيار ٢٠٠٨ مع قرار "حزب الله" استخدام سلاحه في الداخل اللبناني، لتثبيت حكم "حزب الله" للبنان بإسم إيران، وكسر المعارضة الداخلية للأسد في الوقت الذي بدا فيه الأسد أمام فرصة إعادة تأهيل دولية تقودها باريس والدوحة وأنقرة وتل أبيب!
إنتهت أحداث مايو ٢٠٠٨ بإتفاق الدوحة، الذي شكل وثيقة استسلام للفريق السيادي، وورقة بنود سياسية أدخلت تعديلات عملية على اتفاق الطائف، ومنحت "حزب الله" قوة فيتو داخل الحكومة عبر ما يسمى “الثلث المعطل”! وجاءت مبادرة “سين سين”، الراغبة والمراهنة آنذاك على تطمين نظام الأسد من خلال مصالحته مع الحريري، بهدف فصل سوريا عن إيران. إنتهت هذه المبادرة بمكاسب سورية ضخمة وبإخراج الحريري من الحكم بداية عام ٢٠١١، وخروجه لأربع سنوات من لبنان ومن ثم عودته عبر تسوية إنتخاب ميشال عون رئيساً.
هذا غيض من فيض التاريخ المرتبك والمربك لثورة قليلة الحظ، لا تزال تشعل وجدان اللبنانيين، ولا تزال تعبّر في العمق عن رغبة في إيجاد المشترك بينهم.. لا تزال الثورة تنتظر ما بعدها.. ولا زلنا نعيش تحت شمس ذلك اليوم خائفين من الغد، مرتبكين أمام فجره، لا طاقة لنا على الرجوع إلى الأمس ولا قلب يحملنا إلى مغامرة النهار التالي..
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.