زياد سامي عيتاني*
إكتسبت مدينة دمشق شهرة تاريخية كبرى في ما يتعلق بالحج، لأنها كانت ملتقى قوافل الحجاج العرب والفرس والمغول والأتراك. وكانت في أهميتها هذه لا تقل عن أهمية القاهرة نفسها. ولئن كانت القاهرة مركزاً لقوافل الحج الآتية من أفريقيا، فإن دمشق كانت مركزاً لقوافل الحج الآتية من آسيا.
فدمشق كانت نقطة إلتقاء الحجاج الذي يفدون إليها بطريق البر منذ شهر رجب من كل عام من بلاد ما وراء النهر وإيران والأفغان والسند والعراق والأناضول وسواها. فيجتمعون في هذه المدينة إلى منتصف شهر شوال.
وكان الطريق الممتدة من دمشق إلى المدينة المنورة من أقصر الطرق وأكثرها سلوكاً وظل الحكام طيلة العصور الإسلامية وحتى العهد العثماني، حيث أقاموا فيه الحصون والقلاع بدءاً من المزيريب وبصرى إلى القطرانة...
**
•قدم المحمل الشامي:
ويعود تاريخ طريق الحج الشامي إلى بداية إنتشار الإسلام في بلاد الشام ثم في آسيا الصغرى، وما جاورها.
وبدءاً من سنة 1708 أصبح والي دمشق يتولى إمارة الحج وكان موظفون عثمانيون يُرسلون من إسطنبول للإشراف على شؤون الحجاج وكان يرافق القافلة قاضٍ ومؤذنٌ وإمام وأهم واجبات أمير الحج ضمان أمن القافلة.
**
•وظائف المحمل:
كان محمل الحج الشامي يتألف من عدة فئات تقوم بخدمة الحجاج والسهر على راحتهم وحمايتهم.
ومن وظائف تلك الفئات: "السقاة" كانوا يحملون القرب لنقل المياه من البرك والآبار إلى الحجيج. و"البّراكون"، هم أصحاب الدواب التي تنقل الحجاج وتكون من البغال والبراذين. و"العكّامة" وهم أصحاب الجمال والهوادج التي تنقل الحجاج أيضا، وأصحاب المشاعل، وهم حملة القناديل ومشاعل الزيت، وطائفة أصحاب الخيم.
ولكل هؤلاء رؤساء ومعاونون كثيرون، مهيؤون لتأمين راحة الحجاج، فأهل حي الشاغور وقصبة دوما للجمال، وأهل الصالحية كان أكثرهم للسقاية والمشاعل وللبراكة، والبياطرة منهم أيضا، والجنود يخدمون أنفسهم.
أما الأمير وأتباعه فإن مئات الأشخاص يكونون تحت خدمته وخدمة معاونيه.
**
•وضع الصنجق إيذاناً للحج:
وكان أول أعمال الحج وضع الصنجق العلم السلطاني على الباب الأوسط من أبواب الجامع الأموي تحت قبة النسر اعتباراً من جمادى الآخرة إيذاناً للناس بالتهيؤ لأمر الحج وبأن القافلة ستنطلق في هذا العام. وكان وضع الصنجق يتم باحتفال كبير ترافقه"النقارات والمشغلون والملبسون"، وكان الصنجق المملوكي من حرير أصفر مزركش وهلاله من ذهب. وكان على حد تعبير إبن طولون أكثر بهجة من صنجق العثمانيين الأحمر ذي الهلال الفضي.
**
•مراسم المحمل:
تبدأ مراسم المحمل في اليوم الأول لعيد الفطر، وتسمى "مراسم الزيت والشمع والمحمل"، حيث تصطف الفرق العسكرية أمام المسجد الأموي، وتؤدي التحية لوالي المدينة وقائدها العسكري، وبعض كبار الموظفين، وبعد الإنتهاء تجرى حفلة إخراج الشموع والزيوت المهيأة لإرسالها مع موكب الحج إلى الحرمين الشريفين.
في "يوم الزيت" وهو الثاني من شوال كل عام، يتم الإحتفال بنقل الزيت من "كفر سوسة"، ضمن ظروف على ظهور الإبل حتى "الكيلار" في البحصة، وهو المستودع الخاص بأدوات محمل الحج.
أما في اليوم الثالث من شوال "يوم الشمع" فينقل الشمع بإحتفال رسمي أيضاً، من الدار التي سكب فيها في "كفر سوسة" ووزنه ثلاثة قناطير، وماء الورد من محصول قرية "المزة" ووزنه نحو قنطار، والملبس ووزنه عشرة أرطال، ويُحمل الشمع على أعناق الرجال ملفوفاً بالشال "الكشمير" لإهدائه إلى الحرمين.
وفي اليوم الرابع من هذه المراسم، فهو "يوم المحمل"، حيث يخرج موكب الحج الشريف مع المحمل والسنجق إلى حي "الميدان"، ثم "باب مصر"، ومنه إلى قرية "القدم" التي فيها قبة جامع "العسالي"، وتحت هذه القبة، يوضع المحمل نحو عشرة أيام، ريثما تنتهي أسباب السفر إلى الحجاز.
**
•خروج القافلة:
وفي الفترة بين الخامس عشر والعشرين من شهر شوال من كل عام يحل اليوم المنشود، يوم خروج القافلة.
فمع بزوغ شمس ذلك اليوم ينهض جميع سكان المدينة تقريباً وروادها من نساء ورجال وشيوخ وأطفال، وينتشرون على تلك الطريق ويملأون الحوانيت والأسطح وطاقات المنازل وشرفات المآذن.
وعند الضحى حيث تكون القافلة أخذت بالمسير يُحمل المحمل على جمل ضخم الجثة ويُسار به وبالسنجق من ورائه بموكب رسمي يتقدّمه نقيب السادة الأشراف بملابسه الخضراء، ثم أمين الصرّة السلطانية، ومحافظ ركب الحج الشريف، ثم أصحاب المراتب السلطانية من علمية وعسكرية وملكية، بملابسهم الرسمية على أصول التشريفات السلطانية.
ويغادر الموكب باب السَّراي بين أصوات المدافع وضجيج الخلق، تحفّ به كوكبات الجند من مشاة وسوارية (فرسان) وسرايا الدّرك والشرطة، وتلامذة المدارس العسكرية والملكية، ورجال الطرق الصوفية مهللين مكبرين. ومن أمام المحمل وخلفه تسير جوقتان من أجواق الموسيقى العسكرية تتناوبان العزف بالألحان العسكرية. وعلى نقاط متقاربة على جانبي الطريق تصف فصائل الجنود المختلفة لتحية الموكب الذي يقطع هذه المسافة بحوالي ثلاث ساعات على الأقل.
وعقيب وصول الركب إلى المضارب التي تكون قد أعدّت على دكّة المحمل في "العسالي"، يخف لاستقباله والي الشام (الباشا) ومشير جيشها، اللذان يكونان قد حضرا سلفاً لتشييع الركب. ثم توزّع الحلوى والمرطبات على الحاضرين، ويُسلم المحمل واللواء إلى محافظ الحج، حيث يضمهما في صناديق محكمة يتولى حراستها الجند، ويبيتان ليلتهما في العسالي.
**
•رحلة المحمل ومحطاته:
الوصول إلى مكة المكرمة فتسبقه محطات عدة يتوقف عندها الحجاج. وأهمية هذه المحطات البرية، أنها تفسحت المجال لتلاقي الحجاج من شعوب وأجناس مختلفة في تجمع روحاني تجمع بينهم أواصر الدين الحنيف، إذ يتم التعارف وتدور المناقشات.
وفي كانت"قبة يلبغا" أولى مراحل الحج الشامي، وكان الحجاج يبيتون فيها يوماً أو يومين فيتبعهم من تخلف، ويتوجه الركب منها إلى خان ذي النون، فالشيخ مسكين، فطفس، فالمزيرب، حيث يقيم الركب بضعة أيام، وهناك يدركهم من تأخر كما يدركهم حجاج تلك المناطق، ويشتري الحجاج ما يلزمهم من الأقوات والحوائج.
وبعد المزيريب يتوجه الركب إلى درعا أو أذرعات كما كانت تسمى، وفيها يمتار الحجاج ثم يغادرونها إلى أرض المفرق، فالزرقاء، فعمان.
ومن المحطات المهمة بعد ذلك اللجون وفيها يبيت الحجاج ليلتين ويمترون أيضاً مما يصلها من مؤن من القدس. بعدها يصل الركب إلى حالة عمار، فتبوك، فمدائن صالح، وصالح هذا من بني العباس ومنها إلى العلا.
**
•الوصول إلى المدينة المنورة:
من العلا إلى المدينة المنورة هناك يستقبل الركب الشامي الطواشية، وناظر الحرم، وأكابر البلد، ثم أمير المدينة المنورة وبقية العرب".
وكانت المدة التي تستغرقها القافلة بين دمشق والمدينة المنورة فهي حوالى 35 يوماً وعشرة أيام أخرى إلى مكة المكرمة ، كما يفهم مما أورده إبن طولون في رحلة الحج التي قام بها سنة 920هـ 1514م...
أما أمير الركب فكان يرسل الكتب إلى الشام، التي كانت الكتب تتضمن خلاصة أخبار القافلة ويوم الوقفة وأسعار البضائع ومدى توافر المياه والمشكلات وأحوال أمراء الحجاز. فإذا ما حل يوم 25 ولم تصل انتشر القلق في المدينة على الحجاج...
**
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.