يارا أبي عقل
المركزية- هذه المرة، باتت رسالة القدر الأسود إلى لبنان الجريح المنكوب والمكبل بأزماته واضحة: في وطن الانهيار لا مكان للعمالقة وصناع الفرح والزمن الجميل. في وطن الانهيار والفشل الذريع على مختلف الأصعدة، وحده الغياب المضني هو السائد، يصفع الناس بضربات قاسية لا تترك أمام اللبنانيين إلا مساحات فرح ضيقة يحتلها الحنين إلى زمن غابر مزقته الرزنامات وطوى صفحته الموت وهو يخطف أبطاله الواحد بعد الآخر، فنراهم يتساقطون كأوراق شجرة شلع أغصانها هواء الخريف.
هذه المرة، كانت الضربة قاسية: بينما كان لبنان يطفئ مع فيروز، رفيقة صباحاته، وأنيسة أفراحه وأتراحه، شمعتها الـ 87، كان العملاق اللبناني الآخر، روميو لحود، يلفظ الأنفاس الأخيرة، ويكتب مسرحية وداع لبنان الجميل الذي كتبه ولحنه على أوتار كثير من الأصوات المخضرمة والشابة على مدى عقود. رحل روميو لحود في ليلة عيد الاستقلال، عن وطن لا يزال يبحث عن استقلال وحرية يبدوان بعيدي المنال، وقد يمر عمر كامل قبل أن نعثر عليهما في واقعنا المر. لكن الشعوب التي على شاكلتنا اعتادت أن تبحث عن العزاء في مكان آخر: قد نجد هذا اللبنان الحر والمستقل في مسرحيات الأخوين رحباني، كما في الارث الكبير الذي يتركه لحود للأجيال المقبلة من اللبنانيين. كيف لا وهو الذي كان من أوائل الكبار الذين كان لهم شرف نقل الفن اللبناني إلى أهم المسارح الباريسية على الاطلاق، مسرح الأولمبيا. إنه المسرح الذي لا يزال يحفظ في كواليسه وبين حنايا ستائره صورة الشحرورة صباح، النجمة الذهبية في زمن الكبار، وهي تتألق في غناء أهم ما أغنت به المكتبة الموسيقية، تماما كما أن الذاكرة الجماعية لا تزال تعترف لثنائية روميو لحود وصباح بأنها تقف وراء إنجاز كبير وجريء في زمنه من نوع تقديم أغنية "عالندا" باللغة الفرنسية، وهي تلك التي أتقنها المخرج الراحل الكبير، كما الغالبية الساحقة من اللبنانيين، حتى أن شقيقته ألين عملت في مجال الصحافة الفرنكوفونية، في مجلة Revue du Liban. على أن السجل الابداعي للشحرورة لا يمكن أن يقتصر على هذا الانجاز. ذلك أن روميو المخرج الشاب، صاحب النظرة الفنية الثاقبة التي لا تخطئ موهبة قدم مع صباح كثيرا من المسرحيات والأغنيات التي لا تقوى عليها صفحات الزمن الرديء الذي نغرق فيه. ففي زمن كهذا تستعاد أغنية صباح "بكرا بتشرق شمس العيد"، كيف لا والأسطورة أصبحت مرادفا للأمل والفرح، إضافة إلى أغنية "القلعة" التي يربطها البعض بمشاركة الشحرورة مع لحود في مهرجانات بعلبك الدولية، يوم كانت هذه المهرجانات ومجرد الوقوف على مسرحها معيارا للنجاح الفني الباهر، على اعتبار أن قلعة بحجم بعلبك لا تفتح أبوابها إلا لمن هم على قدر هذه المسؤولية الفنية التي يصح وصفها بأنها مشاركة، وإن بسيطة، في صناعة تاريخ الوطن الجميل. سجل أضافت إليه صباح سلسلة من المسرحيات بينها "فينيقيا 80 التي حملت رسائل سياسية، أوصلها روميو لحود، سليل العائلة السياسية الجبيلية العريقة، خصوصا أنه نجل النائب الراحل روفايل لحود، على متن صوت صباح إلى الشخصيات السياسية التي كانت تشاهد المسرحية، بينها الرئيس الأسطورة كميل شمعون. وتقول حكاية يرويها بعض من عايشوا تلك المرحلة أن في أحد العروض، نزلت صباح عن المسرح لتلقي التحية على شمعون، الذي أسست زوجته زلفا مهرجانات بعلبك.
غير أن أحدا لا يشك في أن اسم روميو لحود ارتبط بشكل وثيق بالفنانة الكبيرة الراحلة سلوى القطريب، التي لقبت بفراشة المسرح اللبناني. وهنا أيضا حكاية قليلون هم الذين يعرفونها عن كواليس انطلاق هذا الثنائي الفني المبدع. ويروى في هذا السياق أن روميو لحود زار منزل عازف العود الشهير صليبا القطريب تلبية لدعوة إلى العشاء. وفي لحظة ابتسم لها فيها الحظ، قررت ابنة صاحب الدعوة سلوى الخروج من خجلها المحبب لتقدم أغنية أمام الضيف، المخرج والكاتب، الباحث عن نجمة جديدة تضيء ليالي مسرحه (بعدما كان اكتشف أسماء كالراحلتين مجدلا وفدوى عبيد، إضافة إلى الفنانة عايدة شلهوب). هكذا وقع روميو أسير سحر وهدوء صوت سلوى التي تحولت معه إلى ركن من أركان المسرح اللبناني، مع العلم أن صناعة النجوم في ذلك الزمن كانت تحديا في ذاته، على اعتبار أن الحلبة الفنية كانت واقعة تحت سيطرة صباح (التي كانت قد خرجت من عباءة لحود) من جهة، والثلاثي فيروز والأخوين رحباني من جهة ثانية. إلا أن الأهم يكمن في أن صوت سلوى العذب وألحان وكتابات روميو كانت كافية ليخترقا الصورة ويحجزا مكانا في أرشيف وطن بات يتيم القامات الفنية من طينتهما. بدليل أن أغنية "خدني معك" الشهيرة بصوت القطريب تحولت فعلا نشيدا يستحضر كلما أتت الألسن على ذكر سلوى وروميو، وإن كانت تحمل بين طياته كثيرا من الحنين إلى الطفولة، والخوف من زمن مجهول قد "يشطب الأسماء" و "يشحط عليها الزياح السود". في رحيل سلوى المباغت عام 2009، قال روميو لحود يوما: "سلوى كالسعادة... لا نعرف قيمتها... إلا عندما نفقدها".قد يكون في ذلك شيء من الحقيقة الانسانية المفجعة. إلا أن هذا ما لا يعترف به الفن الأصيل من النوع الذي قدمه روميو وسلوى التي اقترنت بأخيه المنتج ناهي لحود عام 1979، قبل أن يقع هو في شباك شقيقتها ألكسندرا، في زواج هو الثاني له بعد تجربة سابقة لم يكتب لها النجاح.
مع سلوى إذا، قدم روميو أهم وأكبر انتاجاته المسرحية، بدءا من "ياسمين" مرورا بـ "سنغف سنغف" و"بنت الجبل"، المقتبسة التي قدمت في نسخة جديدة أدت بطولتها الفنانة ألين لحود بعد سنوات على رحيل والدتها.كلها مسرحيات شكلت مساحة ضوء لكثير من وجوه الزمن الجميل، على مختلف الأصعدة، بينهم الفنانون جوزف عازار، سمير يزبك، عبدو ياغي، طوني حنا (صاحب الديو الشهير "طال السهر" مع سلوى القطريب)، إضافة إلى الراحلين عصام رجي وملحم بركات، الذي رافقته أغنية "أنا الوالي" التي كتبها ولحنها روميو لحود حتى آخر مسيرته الفنية المديدة. لائحة طويلة من المواهب تضاف إليها أسماء كشقيقتي المخرج الراحل، مصممة الرقص ناي لحود، التي تزوجت الراقص الراحل آلان مرعب، ومصممة الأزياء بابو لحود سعادة... ومع مرور الزمن، فتح روميو لحود أبوابه وقلبه للمواهب الجديدة مشاركا في لجان التحكيم في عدد من برامج الهواة، لا لشيء إلا لايمانه بأن الحياة استمرارية، الأجيال والارث والموهبة والانسان. إنها الاستمرارية نفسها التي ستتيح لنا تقليب صفحات إرث روميو لحود بكثير من حزن الغياب وفرح الذكرى والذاكرة، بينما هو ينتقل إلى دنيا الحياة الأبدية عائدا من تراب عمشيت وحبالين إلى ألكسندرا وسلوى، ومكتشفا "شو في خلف البحر خبريات" يخبئها الله لمؤمنيه ومبدعيه الكثيرين.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.