كتب محمود القيسي:
"وأَنتَ تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيركَ
[لا تَنْسَ مَنْ يطلبون السلامْ]
وأَنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّرْ بغيركَ
[ثَمَّةَ مَنْ لم يجد حيِّزًا للمنام]
وأَنتَ تحرِّرُ نفسك بالاستعارات، فكِّرْ بغيركَ
[مَنْ فَقَدُوا حَقَّهم في الكلامْ]
*محمود درويش
يعود أستخدام الارهاب كوسيلة سياسية إلى الأزمنة الغابرة إلا أن الدعوة إلى الارهاب الثوري والدفاع الفلسفي عنه شاع في السنوات الأولى "للثورة الفرنسية" وفي كتابات بعض المنظرين الثوريين والفوضويين في القرن التاسع عشر وخصوصًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولا سيما في روسيا وأوروبا الغربية. وقامت على أساس أفكار "باكونين" وسواه من منظري العنف الثوري، في روسيا وجماعات "الفهد" و "الانتقام" و "المرعبون" و "الديناميت" في فرنسا ومثل "الاتحاد الباكونيني الايطالي" و "لجنة الثورة الاجتماعية" في بلدان مختلفة من أوروبا الشرقية.
وقد اغتيل نتيجة ذلك كله العديد من ملوك أوروبا وقادة طبقاتها الحاكمة وكانت شرارة الحرب العالمية الأولى مقتل أرشدوق النمسا على يد أحد الثوريين في سراييفو. كما استخدم هذا الأسلوب العديد من حركات المقاومة الثورية مثل "الثورة الإيرلندية" و "الثورة الجزائرية" ضد الأعداء المحتلين والمستعمرين وضد العناصر المتعاونة معهم من أبناء البلد. نعم، أبناءً البلد.. والتي تُعتبر تاريخيًا من أخطر الخيانات الداخلية على الإطلاق وخصوصًا اؤلئك الذين يدعون الوطنية الثورية.. وتجارب عديدة عانت منها الشعوب المظلومة والمضطهدة طويلًا.
كذلك فإن الأمثلة على أستخدام عناصر الثورة المضادة لهذا الأسلوب كثيرة ولعل أهمها هو إستخدام الحركات الفاشية في إيطاليا والحركة النازية في ألمانيا له قبل الوصول إلى سدة الحكم وبعده.. وكذلك فإن المخابرات المركزية الأميركية والإنجليزية والروسية وغيرهما كثيرًا تستخدم أساليب الاغتيال والتخويف لتصفية خصومها وتتآمر مع جماعات المافيا وجماعات المرتزقة وجمعيات عديدة تتسم بالطابع المدني والاجتماعي والديني في حالات عديدة وظروف متغيرة للقيام بمثل هذه المهمات والتي تأخذ طابع السرية وبشكل سري في معظم الأحيان.
وقد شهدت فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي بروز العديد من الحركات "الارهابية" في أجندات بعض الدول.. والوطنية الثورية في وجدان العديد من الشعوب.. مثل "الألوية الحمراء" الايطالية، وجماعة "بادر ماينهوف" الألمانية، و"الجيش الأحمر" الياباني، و"توباماروس" المعروفة أيضًا بإسم حركة التحرير الوطنية اليسارية في الاورغواي.. و"أيلول الأسود" الفلسطيني وبعض "الجماعات المنفصلة" عن "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" التي مارست "أختطاف الطائرات" والعمليات المسلحة ضد مناوئيها... وعُرف من تلك الجماعات الفلسطينية اليسارية تنظيم ما يسمى "المجال الخارجي" بقيادة الدكتور وديع حداد، التنظيم الذي صنّف في معظم الدول الغربية خصوصًا بالتنظيم "الارهابي" الأكثر دقة وتنظيميًا.
في حين ثمانينات القرن الماضي كانت نقطة تحول في مفهوم "الإرهاب" بعد ظهور تنظيم "القاعدة"؛ وهو تنظيم سلفي جهادي مسلح، أُنشئ في أفغانستان سنة 1988. قام تنظيم القاعدة في إطار حربه على من يصفهم باليهود والصليبين بالهجوم على أهداف مدنية وعسكرية في العديد من البلدان، أبرزها هجمات 11 سبتمبر، وتفجيرات لندن 7 يوليو 2005، وتفجيرات مدريد 2004. كما أُعلن بالاشتراك مع أيمن الظواهري عام 1998 تأسيس الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبين، والتي نجم عنها لاحقًا ما يسمى الحرب على الإرهاب دون أن يغيب عن العديد من مراكز البحوث والدراسات (السبب الرئيسي في ظهور وتمدد القاعدة) في حدود الحروب الأفغانية.. وخارج الحدود.
وصولاً إلى "داعش"، او ما يسمى (الدولة الإسلامية في العراق وسوريا) ISIS، المعروفة أيضا باسم (الدولة الاسلامية في العراق والشام) ISIL، وهي مجموعة جهادية "سنية" كما تدعي تتبنى أيديولوجية عنيفة حيث تطلق على نفسها اسم الخلافة وتدعي السلطة الدينية على كل المسلمين. وقد حلل خبراء الإرهاب في مؤسسة RAND كيفية تمويل، وإدارة، وتنظيم هذه المجموعة، إضافة لدراسة حالة عدم الاستقرار التي أدت لظهورها كمشكلة إقليمية في منطقة الشرق الأوسط. ودراسة الاستراتيجيات الإقليمية والعالمية اللازمة لمواجهتها.
داعش، هو المُسمَّى الذي أطلقته قناة العربية اختصارًا للاسم القديم. يتَّبع التنظيم فكر وعقيدة جماعات سلفية جهادية، وشكَّل خلال الفترة الممتدة بين 2014 و2017 شبه دولة سابقة غير معترف بها دوليًا. تأسس في العراق على يد أبي مصعب الزرقاوي، إثر انتقاله من الأردن، بعد إمضائه خمس سنوات بالسجن، فيما عُرف بقضية تنظيم بيعة الإمام، ثم إلى أفغانستان التي استقر فيها حوالي 3 سنوات من 1999 إلى أواخر 2001، أين تعرض لإصابة استوجبت نقله إلى كردستان العراق لإجراء عملية جراحية على ساقه، حيث انضم إلى جماعة أنصار الإسلام، وأسَّس سنة 2003 "جماعة التوحيد والجهاد" التي كانت النواة الأولى لتنظيم الدولة الإسلامية الحالي.
ويهدف أعضاؤه -حسب زعمهم- إلى إعادة "الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة". وينتشر نفوذه بشكل رئيسي في العراق وسوريا، مع انتشار محدود في مناطق دول أخرى مثل؛ جنوب اليمن وليبيا وسيناء وأزواد والصومال وشمال شرق نيجيريا وباكستان وموزمبيق والنيجر. يرى بعض المُحلِّلون والصحفيون بأن التنظيم صناعة أمريكية إسرائيلية، والهدف منه كان خلق حالة عدم استقرار دائمة بالمنطقة، عبر اختراقه من عِدة مخابرات دولية. ويؤيد ذلك مقال لصحيفة النبأ التابعة للتنظيم يبرر فيه عدم استهداف إسرائيل؛ بحجة أن القضية الفلسطينية ليست "قضية المسلمين الأولى"، وإنما القضية الأولى هي "إقامة التوحيد"، وأنَّ الجهاد فيها باطل، مادام سيُستبدل حكم اليهود فيها بحكم حاكم عربي جديد، واصفًا فصائل المقاومة الفلسطينية بأنها رايات كفرية.
أما أبرز الأمثلة على الارهاب الرسمي فهو "الارهاب الصهيوني" وإرهاب حكومة جنوب افريقيا "العنصرية" وبالطبع فإن الارهاب الرسمي الصهيوني وسواه يستجلب ردًا طبيعيًا مماثلًا في كثير من الأحيان تاريخيًا.. الإرهاب الصهيوني، أي استخدام العنف والإكراه بطريقة غير مشروعة ولأهداف غير عادلة، يمتد بجذوره إلى العقيدة الصهيونية، وإلى الأهداف التي حددتها الصهيونية منذ نشأتها التنظيمية، وإلى طبيعة الأهداف الإمبريالية التي من أجلها قام الغرب بتشجيع الفكرة الصهيونية والتي تتلخص بالتآمر على نهضة الجماهير العربية وتحررها، فالصهيونية، من حيث هي حركة استيطانية، قامت على اساس استقدام اليهود إلى فلسطين، وإنشاء مستوطنات على الأرضي العربية، وبناء قوة مسلحة - مدعومة من قبل الإمبريالية العالمية - ضمن خطة، لأخلاء عرب فلسطين بالقوة وإنشاء دولة يهودية خالصة "نقية" على أرض فلسطين. ومن هنا فقد بدأ الإرهاب الصهيوني مع الغزو الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر وما زال مستمرًا باستمرار ذلك الغزو. وبالرغم من ان وسائل الإعلام الغربية والصهيونية كانت تحاول باستمرار لصق الإرهاب بالثوار الفلسطينيين، فإن دراسة التاريخ المعاصر للصهيونية، تظهر إن الكيان الصهيونى، قد تبنى الإرهاب الفردي والارهاب الجماعي والارهاب الرسمي على حد سواء.
فمع اقتراب نجاح المخطط الصهيوني الرامي إلى إعلان الدولة اليهودية، إزداد الإرهاب الصهيوني حدة، واخذ الصهانية يزرعون القنابل الموقوتة في الأسواق والمقاهي العربية المزدحمة بالناس. وفي نهاية الثلاثينات، تكررت مثل هذه الأعمال ضد العرب، وفي مطلع الأربعينات شن الارهابيون الصهانية حملة ارهابية ضد الإنكليز، نتيجة تباطؤ هؤلاء تحت وطأة متطلبات الحرب في إعلان الدولة الصهيونية، فقتلوا اللورد موين المعتمد البريطاني في القاهرة وقد كرمت الحكومة الاسرائيلية ذكرى القتلة الذين أُعدموا في مصر. كما أمتد نشاطهم عام 1948، ليشمل الوسيط الدولي الكونت برنادوت بسبب وقوفه ضد ضم النقب إلى الدولة اليهودية المقترحة بموجب قرار التقسيم الصادر في تشرين الثاني - نوفمبر عام 1947.
بدأت مجازر إسرائيل ضد الفلسطينيين قبل إعلان قيام دولة إسرائيل بحوالي 11 عامًا، عندما كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني والذي كان مسؤولاً عن حماية المواطنين الفلسطينيين. خلال هذه الفترة، ارتكبت الجماعات الصهيونية مثل الإتسل، ليحي (شتيرن)، الهاجاناه، فرقة البالماخ أكثر من 57 مجزرة، مما أسفر عن مقتل أكثر من 5000 فلسطيني وإصابة الآلاف. انطلقت أولى هذه المجازر في مدينة حيفا بتاريخ 6 مارس 1937 حيث قتل 18 فلسطينيًا بعد انفجار قنبلة وضعت في سوق المدينة. بعد عام واحد، طورت الجماعات الصهيونية أساليبها الإجرامية من خلال استخدام (السيارات المفخخة) لأول مرة في حيفا، مما أسفر عن مقتل 21 فلسطينيًا وإصابة آخرين.
وفي مراحل لاحقة، بدأت الجماعات الإرهابية في استخدام الأسلحة الحديثة مثل قذائف المدفعية والهاون والمورتر لمهاجمة الفلسطينيين الأبرياء في مدنهم وقراهم. كانت هذه الجماعات تستهدف تدمير المباني العامة والفنادق وكثيرا ما كانت تهاجم المدنيين خلال الليل. لم تكن هذه الجماعات تميز بين الأطفال والنساء والشيوخ، مما يشير إلى أن هدفها الرئيسي كان القضاء على الفلسطينيين. وتأكيدا لذلك، شهدنا مجازر مثل مجزرة دير ياسين التي راح ضحيتها 254 شهيداً، ومذبحة بيت دراس التي قتل فيها 260 شخصاً، وقرية أبو زريق في حيفا التي قُتل معظم سكانها في ليلة واحدة، مشابهةً لما حدث في مدينة الرملة في عام 1948.. وأنهار من الدماء مرورًا إلى تل الزعتر وصولًا إلى الإبادة الجماعية في غزة.. وارتكاب أكبر مجزرة في المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) بغزة في هذه الأيام التي توقف التاريخ عندها!
وهذه بالطبع ليست سوى أمثال من سلسلة طويلة من عمليات ارهابية لم تنته بعد حتى يومنا هذا، وقد لا تنتهي إلا بالقضاء على المشروع الصهيوني الذي هو في جوهره نفي للعرب الفلسطينيين ولحقهم في الوجود الحر السيد. ولعل أوضح دليل على طبيعة الإرهاب الصهيوني ما قاله المحامي الصهيوني ياكوف شمشون شابيرو في فبراير 1946 في مؤتمر للمحامين اليهود عقد للاحتجاج على قوانين الدفاع البريطانية، حين أعلن بالحرف الواحد: "إن الوضع الذي نشأ في فلسطين بعد سن مجموعة القوانين الدفاعية، ليس لها مثيل في أي مجتمع متمدن، وان مجموعة تلك القوانين لا شبيه لها حتى في المانيا النازية"!
بعد هذا الاجتماع بعامين أقيم الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وتبنى تلك القوانين البريطانية، لما أصبح شابيرو نفسه وزيرًا "للعدل" وتناسى أؤلئك المحامون (الطابع النازي) الذي نعتوا تلك القوانين به بل ذهبوا أبعد من ذلك حين راحوا يطبقون تلك القوانين على الأقلية العربية الفلسطينية بعد إن أصبحوا وزراء في الكيان الصهيونى وهذا بحد ذاته يدل على طبيعة الدولة الصهيونية الارهابية، التي لا يمكن أن تنمو وتتوسع وتبقى إلا من خلال الإرهاب بكل أشكاله.
الارهاب ليس وسيلة متفقًا على أستخدامها في التيارات السياسية الرئيسية ولا تقره معظم الحركات السياسية. وتنظر الحركات التحريرية والثورية الرئيسية في العالم إلى الكفاح الشعبي المسلح ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي على أساس أنه وسيلة مشروعة وسليمة لمقاومة الاحتلال والعدوان وتحقيق مبدأ "تقرير المصير".. نعم، تقرير مصير الشعوب الذي أقره القانون الدولي ونص عليه ميثاق "الأمم المتحدة" الذي أنتهك مرارًا وتكرارا من الكيان الاسرائيلي المحتل لفلسطين حتى تاريخ كتابة هذه السطور!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.