زياد سامي عيتاني
في بدايات إطلالة رفيق الحريري على الحياة العامة في لبنان، كان الناس يرتابون من عطاءاته ومساعداته ومشاريعه وشركاته ونشاطه السياسي، متسائلين عن أهدافه الغامضة التي ربطوها بمصالحه أو بمصالح جهات خارجية. فاللبنانيون لم يسبق أن عرفوا أو خبروا شخصيات أو زعامات سياسية، لا سيما في الوسط السُّنّي، والبيروتي تحديداً، تشبه رفيق الحريري في عطاءاته الكثيرة المتنوّعة. فهم تعوّدوا سياسيين وزعماء يقدّمون الخدمات لـ”جمهورهم الخاص” من مؤسسات الدولة وأجهزتها، لا من مؤسساتهم وأعمالهم الخاصة، ووفق مبدأ الولاء والمحسوبية والاستزلام.
وربما كسر الحريري هذا النمط من علاقة الناس بزعمائهم، وأحزابهم (التي تحولت إلى ميليشيا عسكرية)، وتجاوزه بتوسيع دوائر تلك العلاقة وتنويعها قبل وصوله إلى رئاسة الحكومة وخوضه الانتخابات النيابية. لعل أعماله وشركاته العملاقة للبناء والإعمار وفي القطاع المصرفي، ثم في رئاسة الحكومة، وحضوره على صعيد العلاقات الدولية، كسرت مفهوم الزعامة السياسية التقليدية والمحلية في بيروت ولبنان تالياً.
عندما قرر رفيق الحريري العودة إلى لبنان، كان هاجسه وإهتمامه يرتكزان على مسألة وطنية أساسية كيف يعود إلى وطنه ليساهم في انهاء حروبه وتحقيق السلام الاهلي وإعادة إعماره وبنائه من جديد. ولم يكن الإعمار عنده بالبناء المادي فقط، انما كان بكل ما تحمله كلمة إعمار من أبعاد وطنية شاملة في السياسة والاقتصاد والثقافة والتربية والتعليم ومتطلبات النهوض السياسي والتعليمي والاقتصادي. لقد كان يعتبر إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي هما الأساس الصلب الذي يقوم عليه هذا التوحد اللبناني بتنوعه، ويوفران المصالح المشتركة بين اللبنانيين، ويساعدان على تحقيق العيش المشترك بين طوائف لبنان المتعددة والمتنوعة.
الرئيس الشهيد شكل ظاهرة استثنائية في حياة لبنان والعرب في العصر الحديث كرجل دولة لبناني بارز، نال شهرة عالمية قل نظيرها. ومشروع الحريري تبلور من خلال ممارسته السياسية والاقتصادية والاعمارية طيلة السنوات الست التي تولى فيها رئاسة الحكومة، حيث حقق وبسرعة فائقة كل التقديرات، ما ساهم خلال بضع سنوات في نقل لبنان من حالة الحرب الى حالة السلم، وإعادته إلى الخريطة العربية والدولية.
مشروع الحريري كان يرتكز على الاعتدال والتوازن والعيش المشترك، وكان يعمل من أجل ترسيخ الوحدة الوطنية اللبنانية على أسس صلبة، تقوم على التوازن بين “اللبننة” و”العروبة” (المنفتح والمتنورة)، بحيث ساهم الرئيس الحريري في بلورة المفهوم الوطني الذي يربط الوطنية اللبنانية الشاملة بالعروبة. وتلك المعادلة الوطنية ببعدها العربي التي أرساها الرئيس الشهيد، أعادت المسلمين (وتحديداً السنة منهم) إلى كيانيتهم اللبنانية، بعدما حرر المسلمين من تبعيتهم للعروبة من خلال ولائهم لأنظمتها المتتالية التي مسكت القرار اللبناني تاريخياً، مقابل إراحة المسيحيين وطمأنتهم بإنتماء لبنان إلى عروبته كدولة مستقلة ذات سيادة، وتأكيد دورهم التمايزي الذي يعطي لبنان خصوصية تعددية، تجعله ذات صيغة فريدة قائمة على التعدد والتنوع والإنفتاح، بين نظرائه من الدول العربية.
بناءً عليه، يمكن فهم هذا الدور الأدائي المتميز سياسياً للرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي جعله يخرج من مجال الزعامة السنيّة الى مجال القيادة الوطنية اللبنانية الشاملة والجامعة، ولعب الدور المحوري في ترسيخ أمتن الروابط بين لبنان وأشقائه العرب، ونسج أوسع علاقات التعاون مع أصدقائه الغربيين وأفضلها، موظفاً ومسخراً شبكة علاقاته العربية والدولية في هذا الإطار. كذلك يمكن من خلال هذا الدور، فهم أبعاد الإغتيال المزلزل وأهدافه، لأنه كان يشكل عائقاً كبيراً في مواجهة المشروع الذي يهدد الدور للبنان الدولة والكيان والدور المستقبلي في المنطقة.
لبنان الكبير
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.