13 شباط 2024 | 08:59

أخبار لبنان

عدالة الذكرى

عدالة الذكرى

رشيد درباس





أول ما يحضر في ذهني في هذه اللحظة، ‏هو همي الدائم أن تعود مدينتي بيروت أمَّاً ‏للشرائع كما هو لقبها، وننجح كلبنانيين في ‏إقامة دولة القانون.‏

نواف سلام، رئيس محكمة العدل الدولية

في الذكرى الثالثة لغياب جان عبيد، لا يزال المكان ‏شاغراً...‏

وبعد،

تَرَقَبَتْ أنظار العالم ما سيخرج عن "قصر السلام" في ‏مدينة لاهاي من تدابير تمهيدية في الدعوى التي قدمتها جنوب ‏إفريقيا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية. استغرق الأمر ‏شهرًا وبعضَه ليخرج على التوالي خَبَران:قرارٌ واضح الدلالة ‏بليغ السبك عميقُ غورِ القانون، يشكل قرينة تنبىء بما سيكون ‏عليه القرار النهائي الآتي بعد استكمال التحقيق والمداولة ‏والتدقيق، والخبر الثاني إعلان بشرى انتخاب الدكتور نواف ‏سلام رئيسًا لمحكمة العدل الدولية، متبوِّئًا بذلك المكانةَ التي ‏تليق به كرمز للعدالة في العالم، بعيدًا من سوق المقايضة ‏السياسية اللبنانية.‏

ولكن قد يسأل سائل: ما الجدوى من القرارات القضائية ‏الدولية،ومعظمها لا يُنَفَّذ، بل تستخف به دول كثيرة؟ فأجيب:إن ‏ما يصدر عن العدالة الدولية له قيمة إجرائية وعملية لا تقل ‏عن أهميته التاريخية المعنوية، فالدول التي تصدر بحقها ‏الأحكام، توصم في المحافل السياسية والمالية وفي مجال ‏التجارة الدولية، بأنها لا تحترم القوانين ولا المعاهدات، وهذا ‏ينطوي على أضرار جسيمة إن لم تكن في الحاضر، ففي ‏المستقبل والضمائر.‏

قبل هذا انتظر اللبنانيون سنوات كثيرة صدور قرار ‏الإدانة في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري عن المحكمة ‏الخاصة التي كان مقرها "لاهاي" أيضًا، المدينة التي اكتسبت ‏مهابتها وصدقيتها كمقر دائم للعدالة الدولية، التي هي كلٌّ لا ‏يتجزأ، ومن آثارها أن الناسَ غدًا في ذكرى الاستشهاد، ‏سيحتفلونبالصلاة لروحرفيقالحريري، وقد علموابتفاصيل ‏المؤامرة وخطط الاغتيال والأشخاص المنفذين، وهذا بحد ذاته ‏تأكيد على أن الجريمة لا تفيد، وأن الحركات السياسية قد ‏تصاب بنكسةٍ عند تغييبروادها، لكنها سرعان ما تستعيد همتها ‏وتَجِدُ روادًا آخرين يستأنفون مسيرتها.‏

وغداً، قد يكون في ساحة الشهداء وبيت الوسط جمع ‏غفير يعبر عن رغبة في إعادة الإمساك بالزمام، بعد مرور ‏عامين من التَّكَيُّف القلق مع الفراغ والعشوائية وفشل محاولات ‏التسوية. وهذا يدعوني إلى الاستنتاج بأن المسألة التي ‏ستطرحُها المناسبة ليست مسألة مظلومية أو محاسبة على ‏إخفاق المبادارت، بل هي محاولة تصدٍّ للظروف الراهنة ‏الخطيرة التي لا يجوز التعاطي معها باللامبالاة أو الاستسلام ‏لمجرياتها، لأنها ستكون بالغة التأثير على شكل الصيغة ‏وطبيعة علاقاتها الداخلية والعربية والدولية. ‏

ومن هذا المنظور، أتوقع ألا تكون ذكرى استشهادرفيق ‏الحريري، مناسبة لِطَيِّ صفحة من تسعة عشر عامًا،امتلأت ‏حتى فاضت الأسطر بكل ما دُوِّن فيها من نصوص متشابكة ‏ومتعثرة، وما احتوته من أحداث وترددات زلزالية.بل هي ‏مناسبة لفتحصفحة جديدة تقوم على وضوح الرؤية والواقعية ‏السياسية، والحزم حيث يجب الحزم، والمرونة التي تقتضيها ‏الظروف، والكتابة بالقلم أن سرَّ الدولة اللبنانية يكمن في ‏تكاملها، واستعصائها على الدكتاتورية، وفي التزامها ‏بالتسويات اللازمة، والمعادلات العميقة التي حالت دون ‏التحاقها بقائمة دول الاستبداد. لقد انخرط رفيق الحريري في ‏الحياة السياسية حين كان لبنان مقطع الأوصال، عاصمته ‏فدرالية متاريس، وفضاء ظلمة، وعملته الوطنية تترنَّح باتجاه ‏التضخم، وميليشياته أقوى من جيشه المنقسم، ورغم هذا راهن ‏على ظروف دولية وعربية مؤاتية،وأشهر سلاح العمران ‏وترميم المؤسسات، فلما انقلبت الأحوال إلى رغبة في إبقاء ‏لبنان ساحة مفتوحة، جرى تغييبه من أجل إحباط مشروع ‏الدولة الذي سار فيه قدمًا. لكن غالبية الشعب التي وَعت تمامًا ‏مصلحتها في بقاء الدولة وتطويرها حاولت أن تحبط نتيجة ‏الاغتيال، فأحرزت في هذا تقدمًا استمرَّ إلى أنذرَّتبقرونها ‏البرامج الخاصة بمكونات حركة 14 آذار، فراح كل ينسج ‏حلفه الخارجي، ويخاصم حليفه الداخلي، ويترك العنان ‏للمواقف المجانية والمزاجية، فاستقال من استقال، وانعزل من ‏انعزل، واعتزل الذي اعتزل.وتدحرجَ الوضعُ سريعًا إلى ‏وراء، حتى أدركَنا زمنٌ هجين تشهد فيه بيروت حركة مكوكية ‏من وزراء خارجية الدول والسعاة والسفراء بالتزامن مع ‏اللهيب المشتعل على الحدود، وفي ظل تهديد متواتر بعدوان ‏إسرائيلي، وبينما نحن أسرى فشل مزمن في انتخاب رئيس، ‏مستسلمون إلى انقسام يأخذ أشكالًا طائفية خطيرة تنقل الخلاف ‏السياسي من صعيده الطبيعي إلى آخر منذر بتدمير الكيان تحت ‏شعارات التخوينوالطلاقوالفدرالية، والثقافتين المختلفتين، ‏والديانتين المتناقضتين، وما إلى ذلك من ترهات مُضِلَّة، ‏وصلت حد الجهر الوقح بما هو باطل ولو في المناجاة ‏والسرائر، فضاع الصواب في محاولة لطمس الحقيقة الأصلية ‏بفتح حسابات فرعية لحقائق مزورة تصور اللبنانيين، كأنهم ‏ورثة الحروب الصليبية أو بقايا سطوة السلطنة العثمانية أو ‏حفدةُ الفتنة الكبرى في الإسلام.‏

وإذا كانحزب الله يربط وقف عملياته العسكرية بوقف ‏الحرب في غزة، فإن المواقف المعترضة تتراوح بين الرصانة ‏والرعونة، في مشهد أشبه بالرقص فوق فوهة البركان ‏المتحفز.أما آن لنا أن ندرك أن مقاومة المقاتلين ودماء الشهداء ‏لا تنتج مفاعيلها إلا إذا كانتجزءاً من مقاومة سائر اللبنانيين، ‏وأن كل جهد يقدمه المواطن مقاومة، وكل كلمة في مجال ‏الوحدة والتضامن مقاومة.‏

وفي هذا الخضم، أرى من وجهةٍ، أحاول أن تكون ‏محايدة، أن استدراج الطائفة السنية إلى اللاموقف أو إلى ‏الالتحاق، أصبح يشكل خطرًا وطنيًّا، لأنها من الحقول ‏الخصيبة لتأليف العناصر، وابتكار المعادلات، فهي ‏الماضيالذي انخرط في لبنان الكبير وجعله ممكنًا،وهي ‏الحاضر الذي يتمسك بالعروبة تحت شعار "لبنان أولاً".‏

تشهد الشوارع إرهاصات احتفالات بعودة الرئيس سعد ‏الحريري، ولسان الحال يقول "أنت سر أبيك"، ولقد رحل ‏الأب وبقي السر الذي لا يحتاج إلى المنجمين والعرافين، فهو ‏بسيط جدًّا، شفّافٌ يفضي إلى معنى واضح، مفاده أن الدولة لا ‏تباع ولا تؤجر ولا تسترهن، ولا تُقَسَّم، و"أن المسألة ليست ‏عاطفة تجيش، وعلاجاً لأزمة راهنة فحسب، بل هي خطط ‏سياسية وتنظيم وإنماء، واحتكام إلى الديمقراطية، وتوازن ‏دقيق يوائم بين المصالح الوطنية والقضية القومية،فقضية ‏فلسطين هي حجم حضور الأمة في مسيرة العالم، ومخزون ‏مشاعر يجب وضعه في مرجل الاندماج نحو التنمية ‏والارتفاع إلى مستوى المشكلة الحضارية في العالم العربي" ‏كما كتب الأستاذ عمر مسقاوي في مقال نشره في عام 2006 ‏وقال فيه أيضًا: "المناقشات العربية في قمة السلام في ‏بيروت سنة 2002 كانت تتحدث عن السلام، وهي تسمع ‏خارج القاعة ضجيج جرافات إسرائيل تهدم البيوت وتقيم ‏المستوطنات".‏

ما أشبه الليلةَ بالبارحة. إنهم يتحدثون اليوم في حل ‏الدولتين، بينما يجري إخلاء قطاع غزة من الحياة وأسبابها، ‏بالتزامن مع تفشي الاستيطان في الضفة الغربية، وتجريف ‏حقول الجنوب ومحاولة فرض نمط على لبنان، يُؤَمِّنُ الحدود ‏لدولة إسرائيل، وَيُصَدِّرُ النزاع والشقاق إلى داخل البنية ‏الاجتماعية والوطنية اللبنانية، فالسلام الذي تتحدث عنه ‏إسرائيل ورعاتها هو من نمط "السلام الروماني" الذي يقوم ‏على التدمير والإبادة؛ ولهذا أختمبالتنويه مرة أخرى بقرار ‏محكمة العدل الدولية،وبتحية "الزنوجة"‏la négritude، أي ‏التيار الذي أطلقه الأديب والسياسي المارتينيكي (إيميه سيزار) ‏مع أول رئيس للسنغال الشاعر(ليوبولد سنغور)، وهو يعني أن ‏ما يُوحِّد الناس ليس لونَ البشرة، بل ألوانُ القيم الكبرى التي ‏تختزن المثالية في الحياة والتعطش إلى التحرير.فمن هناك ‏انبثق "نلسون منديلا" مؤسس الدولة التي هزمت الفصل ‏العنصري، وذهبت إلى "لاهاي" بِبَشَراتٍ متعددة الألوان، ‏لإدانة "الحضارة الصهيونية والتنديد ببياضها الفاقع."‏




النهار 

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

13 شباط 2024 08:59