جوج بكاسيني

11 نيسان 2019 | 00:00

كتب جورج بكاسيني

انتخبوا طرابلس

ربّ قائل أن الإنتخابات المقرّر إجراؤها الأحد في الرابع عشر من نيسان انتهت قبل أن تجري، في إشارة ضمنية إلى جملة أسباب أبرزها أنها انتخابات حول مقعد وحيد، وأنها تخلو من معركة سياسية بفعل إنكفاء فريق الثامن من اذار عن ترشيح المرشّح السابق طه ناجي أو من يعادله سياسياً، وأخيراً وليس آخراً نتيجة عزوف الفريق نفسه عن المشاركة في الاقتراع أيضاً.

قد يكون هذا الانطباع صحيحاً، وقد لا يكون، إلا أن مقاربة هذا الاستحقاق من هذا المنظار ليست صحيحة البتّة، لسببين: الأول ان هذا الاستحقاق هو أكثر من انتخاب، وأن طرابلس أكثر من مدينة.

فمن دون الوقوع في فخّ التمييز بين طرابلس وبين أي مدينة أخرى على الساحل اللبناني أو المتوسطي، ومن دون الاسترسال في ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، التي تحتّم أكثر وأكثر ضرورة الانخراط في أي عملية انتخابية من باب السعي الى المساهمة في تحسين أحوالها على الأقلّ، يجدر التوقّف أمام ما هو أبعد من ذلك، أي ما يتّصل بمكانة هذه المدينة (بشقيها الموجود والمفقود) ودورها، ناهيك عن تاريخها ومخزونها السياسي والثقافي والحضاري.

لم يسبق أن قاطعت طرابلس استحقاقاً انتخابياً حتى في عزّ معارضتها للنظام، كمشاركتها في انتخابات 1957 وتصويتها ضدّ الرئيس الراحل كميل شمعون. أكثر من ذلك، كانت على الدوام أم الحيويات السياسية في المدن اللبنانية. عرفت الحياة الحزبية قبل غيرها من مدن المتوسط رغم بيئتها المحافظة. حتى أن "قبضايات" أحيائها الذين درجوا على معاداة النظام – على امتداد عقود – كانوا أبرز "المفاتيح" الانتخابية التي كان يستعين بها أقطاب اللوائح الانتخابية.

لم تغِبْ مدينة "العلم والعلماء" يوماً عن قضايا العرب من محيطهم الى خليجهم، فهتفت لعبدالناصر، واحتضنت فلسطين، ورمزها في الربع الأخير من القرن السابق أبو عمّار، وتركت فسحة لصدّام حسين مع صعود نجم النائب الراحل عبدالمجيد الرافعي، الذي خرق منفرداً لائحة الزعيم الأقوى في طرابلس الرئيس الشهيد رشيد كرامي العام 1972، قبل أن تفتح الطريق أمام زعامة وطنية عابرة للمناطق، أي الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومن بعده الرئيس سعد الحريري.

هذه المدينة العابرة للقضايا والثقافات، من الصليبيين مروراً بالفاطميين والمماليك والعثمانيين وصولاً الى الفلسطينيين والسوريين، لا يمكن ان تُختزل بقرار مقاطعة من هنا أو انكفاء من هناك. ظروفها البائسة اقتصادياً واجتماعياً ينبغي أن تكون سبباً إضافياً للانخراط والمشاركة أكثر وأكثر في أي استحقاق انتخابي.

دفعت طرابلس ثمنين في تاريخها الحديث: ثمن علاقتها المأزومة مع الدولة (النظام)، ومن ثم ثمن الانقسام السياسي في البلد. بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري العام 2005 تصالحت طرابلس مع "الدولة" ورفعت شعارها، آن الأوان أن تتصالح الدولة مع طرابلس، وأن تعي مكانتها وحاجياتها، شرط أن يقلع بعض سياسييها عن سياسة "النكاية" أو المقاطعة على قاعدة "أنا لا أعمل فلا أترك الاخرين يعملون".

بعد ولادة "لبنان الكبير" على يد الانتداب الفرنسي قاطع معظم المسلمين النظام فحصدوا حرماناً وغبناً في التمثيل ملأه الانتداب بأشخاص محسوبين عليه، وفي العام 1992 قاطع معظم المسيحيين الانتخابات النيابية التي رعتها الوصاية السورية، فحصدوا حرماناً وغبناً في التمثيل ملأته الوصاية نفسها.

فمن "جرّب المجرّب" كان عقله "مخرّب".

انتخبوا طرابلس.


يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

جوج بكاسيني

11 نيسان 2019 00:00