7 نيسان 2024 | 12:12

منوعات

بيوت الله في بيروت بين "زاوية أبو النصر" و"جامع محمد ‏الأمينۖ‎" ‎‏... مسافة زمن وحكاية تاريخ(٣/١)‏

بيوت الله في بيروت بين

زياد سامي عيتاني





بين "زاوية أبو النصر"" وجامع محمد الأمينۖ" مسافة زمن وحكاية لتاريخ معالم بيروت الإيمانية والدينية، حتى تصبح مآذن مساجدها بالتكبير مع كل آذان في أرجاء سمائها.

و"لجامع محمد الأمينۖ" الذي يحتضن في جانب منه ضريح بانيه الرئيس الشهيد رفق الحريري جوانب وخلفيات تاريخية تعبر بصدق وأمانة عن الجذور الإيمانية لبيروت، إضافة إلى ورع رجالاتها وزهدهم وتقواهم منذ دخول الإسلام إليها، وحتى يومنا هذا.

**

كما أن لموقع "لجامع محمد الأمينۖ" دلالات وأهمية تاريخية يقع على الجهة الغربية من "ساحة الشهداء"، نظراً لما تمثله هذه الساحة على مدى أربعمائة عام من مسرح للأحداث والتطورات المرتبطة بتاريخ بيروت، منذ أن كانت ولاية، إلى أن إحتلت مكانتها الريادية والمتقدمة عاصمة مركزية لدولة لبنان الكبير.

فساحة الشهداء التي تسمو وترتقي "بجامع محمد الأمينۖ" تختزن في وجدان الزمن محطات وطنية وقومية مشرفة ومشعة إرتبطت بتاريخ بيروت ونشأة لبنان، حتى أصبحت بهويتها ومعالمها المكان الذي يؤرخ تاريخ لبنان القديم والمعاصر على حدٍّ سواء وشاهدة على ولادة الإستقلال الأول والثاني...

**

إذاً على القسم 6 من العقار 323 / مرفأ كانت تقوم منذ أواسط القرن التاسع عشر "زاوية أبو النصر" في وسط "سوق أبو النصر" التجاري في قلب بيروت قبل أن تشكل لجنة خاصة بجمع التبرعات لضم أقسام جديدة إلى العقار المذكور بهدف توسعة الزاوية وجعلها مسجداً كبيراً يحمل  إسم "جامع محمد الأمينۖ"...

**

ففي أواخر القرن ما قبل الماضي إنتشر في بيروت وباء أُصيبت به عيون الأطفال في المدينة. وهذا الوباء هو نوع من الرمد يدعى "تراخوما". ولمكافحة هذا الوباء وعلاج المرْضَى منه قَدُمَتْ إلى بيروت بعثة من راهبات "اللعازارية" ضربت خيامها تجاه درج خان البيض الحالي (رجال الأربيعن سابقاً) في نفس المكان الذي شيدت فيه بناية "اللعازارية"، التي ما تزال قائمة، وكان يومذاك أرضاً بوراً أفلحت هذه البعثة في إنجاز ما قدِمت من أجله وخفت وطأة "التراخوما" في البلد، مما حمل السلطان عبد المجيد الأول على إصدار فرمان بتقديم الأرض التي خيمت فيها الراهبات المذكورات ملكاً لهن وذلك جزاء على خدماتهن الطبية الإنسانية.

ولكي تكون البادرة السلطانية متوازية بين المسيحيين وبين المسلمين، فإن السلطان أصدر في نفس الوقت فرماناً آخر منح بموجبه المسلمين، عن طريق نقيب الأشراف المرشد محمد أبي النصر اليافي، قطعة أرض أخرى في الجهة الغربية الجنوبية من "سهلات البرج" أي "ساحة الشهداء"، ليفيدوا من ريع ما يرون بناءه في هذه الأرض.

**

وعليه، فإن نقيب الأشراف بنى فيها سوقاً تجارية وقفية عُرفت من حينها باسم "سوق أبو النصر". وكان السوق الكائن في محلة إدة تجاه "برج الكشاف" (ساحة البرج) مؤلف من عدة دكاكين وقهوة برواق وفسحة مفتوحة إغلاقها لجهة الشرق، إشتهرت فيما بعد بقهوة " القزاز ".

وبما أن أغلب الأسواق القديمة كان يطلق عليها إسم عائلات أصحابها، فإن سوق أبو النصر بالطبع نسب إلى الشيخ أبو النصر اليافي.

كذلك بنى الشيخ محمد أبو النصر اليافي داراً فخمة من طابقين، كان أهل العلم والفقه يعقدون فيها حلقات الدراسة والأذكار على الطريقة الخلواتية، التي أسسها الشيخ عمر كمال الدين الخلواتي في الطبقة الأولى من الدار التي أُطلق عليها "زاوية أبو النصر", بعد أن كانت تُعرف بإسم "الزاوية الخلواتية".

أما الطبقة الثانية من " زاوية أبو النصر " فأقام فيها الشيخ أبو النصر اليافي، وكان يستقبل فيها ضيوفه من العلماء والأشراف الوافدين إلى بيروت.

**

و "زاوية أبو النصر" التي بنيت أواسط القرن التاسع عشر، فهي من أكثر زوايا بيروت عمراناً بالمؤمنين لكثرة مريدي وأتباع الشيخ أبو النصر اليافي الذي كان في زمانه من كبار العلماء والمرشدين وشيخ الطريقة الخلواتية في بيروت، حيث تجول في أنحاء مصر والشام والحجاز لنشر الطريقة الخلواتية.

وممن نزل ضيفاً على الشيخ أبو النصر اليافي الأمير عبد القادر الجزائري عندما زار للمرة الثانية سنة 1862 م. بيروت في طريقه إلى دمشق التي إختارها الأمير لإقامته بعد تغلب الفرنسيين عليه في الجزائر، وأقام له الشيخ أبو النصر ليلة ذكر في زاويته تكريماً وتقديراً له، لما سمع عن بطولاته في الجزائر.

ويوم مجيء الأمير عبد القادر إلى بيروت وحفت المدينة لآستقباله والترحيب به تقديراً وآعتزازاً ببطولات الوطنية في الجزائر ضد قوى الإنتداب.

وقد إمتدحه أبو الحسن قاسم الكستي بقصيدة جاء فيها:

هو للقادر المهيمن عبد

بهداهُ أعيا الزمان وراعهْ

محي الدين العلى أبوه برشدٍ

وإلى جَدِّه تؤول الشفاعة

رأيه كالحسام بل ذاك أمضى

كم أرانا في المشكلات زعامَةْ

ما دعا الدهر في قضاء أمور

قطّ إلاّ لبّاهُ سمعاً وطاعَةْ

**

وعلى الرغم من أن "زاوية أبو النصر" بقيت قائمة في مكانها بالقرب من ساحة الشهداء، فإنه ومع إندلاع حرب الفتنة عام 1975 قضت الأعمال العسكرية العبثية والمدمرة على معالمها وأدت إلى هدمها بالكامل، حيث أن تلك الحرب تسببت كلياً بإزالة الإنشاءات التي كانت قائمة على أرض العقار 323 / مرفأ بما فيها إنشاءات "زاوية أبو النصر" على القسم 6 من العقار المذكور لتمحى بذلك واحدة من معالم بيروت الدينية والتاريخية.

**

عندما حطت الحرب رحالها وبدأت عملية إعمار بيروت، لم تتمكن لجمة "جامع محمد الأمينۖ" من إعادة بنائه، وبعدما تأخر بناء "مسجد محمد الأمينۖ" في المكان الذي كانت تقوم عليه "زاوية أبو النصر"، لسنوات عديدة دون أن تتمكن المديرية العامة للأوقاف الإسلامية من البدء بتنفيذه، إستدعى الأمر حلّ جمعية محمد الأمينۖ بموجب المرسوم رقم 8572 تاريخ 30 آب 2002، بمبادرة جريئة من الرئيس الشهيد رفيق الحريري، حيث تسارعت في ضوئه وتيرة الخطوات للشروع الفوري في وضع المشروع موضع التنفيذ.

**

وكانت شركة "سوليدر" وبإيعاز من الرئيس الشهيد، قد وجهت بتاريخ 18/12/1995 كتاباً إلى المديرية العامة للأوقاف الإسلامية رقم 95/1464/DL تضمن الإفادة بأن العقار رقم 323 / المرفأ العقارية سيخصص لبناء "مسجد محمد الأمينۖ"، وبأن الشركة ستقوم عند إتمام عمليات الضم والفرز وإجراءات المساحة بتعديل حدود العقار لإضافة مساحة / 750 / متراً مربعاً لتوسعة الصحن المحيط بالمسجد وتسجيلها على إسم المديرية العامة للأوقاف الإسلامية في حينه.

**

وفي هذا الوقت تولت شركة "أوجيه لبنان" وضع الخرائط والتصاميم الهندسية والمخطط التوجيهي لبناء المسجد على كامل المساحة الإجمالية للعقار 323 / مرفأ من العقار 1488 / مرفأ، حيث بلغت كلفتها ما يُقارب 700 ألف دولار أميركي تولى تغطيتها الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

**

ومن خلال ما تقدم تكون قد تهيأت كل الظروف والمعطيات وتوفرت الإجراءات والتدابير القانونية والإدارية والعقارية اللازمة ليصار بعون الله تعالى وعلى بركته تحقيق الحلم الذي راود البيروتيين نصف قرن بتشييد "جامع محمد الأمينۖ" على كامل العقار 323/مرفأ والعقار الملاصق رقم 1488/ مرفأ، وذلك من الرصيف إلى الرصيف، بدون أي تنازل عن شبر واحد أو تراجع، لترتفع مآذنه شامخة متعالية في سماء بيروت الحبيبة ويصدح منها نداء التكبير خمس مرات يومياً.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

7 نيسان 2024 12:12