مرة جديدة، يضرب الاستقرار اللبناني السياسي والامني عصفٌ من الهذيان غير المفهوم. بدلاً من أن يكون الإعلان عن إعداد موازنة للسنة الثانية على التوالي، بعد انقطاع دام أكثر من عقد من الزمن مناسبة للتقدير والحثّ على إنجازها وعرضها على مجلس الوزراء ومن ثم مجلس النواب لإقرارها وانتظام مالية الدولة، تحوّل إلى منصّة يستخدمها القاصي والداني لنبش دفاتر مُغلقة إختلط فيها المالي بالسياسي بالطائفي.
ومثله مثل قانون الانتخابات، وقبله التسوية الرئاسية، وقبلهما أزمات الفراغ الرئاسي الحكومي والنيابي والازمات الوطنية الكبرى، تحوّل مشروع موازنة 2019 الى "شمّاعة" يتلطّى خلفها سياسيون موالون ومعارضون وشرائح شعبية، لتبادل الاتهامات والمسؤوليات، أو الاستماتة في الدفاع عن هذه المؤسسة أو الإدارة كما لو أنها ملك لهذه الطائفة أو تلك. فالجيش، برأي بعضهم، أصبح للمسيحيين وحدهم، والقطاع المصرفي و"أوجيرو" للسّنة، والمرافئ البريّة والجويّة للشيعة!! وأن أي تخفيض لأي مُخصّص (إضافي على الراتب الأساسي) لهذا الموظف أو ذاك من ذوي الدخل اللامحدود يُعدّ مساً بهذه الطائفة أو تلك!!
هذه باختصار حصيلة السجالات الدائرة حول موازنة 2019 التي لم تبصر النور بعد. ادعاء سياسي وشعبي ضد مجهول، لم يُعرف حتى الساعة واحدٌ من بنوده. موالون يتصرفون كما لو أنهم في صفوف المعارضة. ومعارضون طالما طالبوا بموازنات إصلاحية يحتجّون على موازنة هي الاولى من نوعها "إصلاحياً".
رئيس الحكومة ووزير المال يعلنان مراراً وتكراراً أن لا استهداف لذوي الدخل المحدود وبعض السياسيين ووسائل الاعلام ينفون المؤكد من أصحاب الشأن.
بالتأكيد ما نشهده على هامش استحقاق الموازنة ليس جزءا ً من الصراع التقليدي بين ضفتي 14 و8 آذار. إنه عبارة عن "هرج ومرج" اختلطت فيه الاصطفافات الى حدّ فاق القدرة على التفسير على الطريقة اللبنانية. بنيوياً هو صراع بين استفاقة متأخرة على عورات نافرة في نظامنا السياسي – الإداري فرضها العجز في ميزانية الدولة، وبين ردّ مُبكّر على محاولة إلغاء امتيازات هذا النظام. اما سياسياً فهو واحد من علامات "الشعبوية" الرائجة في عصرنا الحديث، عصر الشعبوية التي تجتاح العالم.
يقول الباحث الفرنسي الكبير Francois Lenglet في كتابه الجديد "Tout Va Basculer" أن الليبرالية في عالمنا الى أفول والشعبوية في صعود مستمر للحلول مكانها.
لو نقرأ جيدا هذا الكتاب.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.