توأم "لبنان الكبير"

نصرالله بطرس صفير واحدٌ من البطاركة التاريخيين. ينتمي الى شجرة من البطاركة الذين تركوا بصمات لا تُنسى في تاريخ لبنان، مثل البطريرك الأول يوحنا مارون والبطاركة اسطفان الدويهي (أهمّ مؤرّخ للطائفة المارونية) والياس الحويك وأنطون عريضة وبولس المعوشي.

عمره من عمر "لبنان الكبير" الذي ولد في العام نفسه الذي ولد فيه (١٩٢٠) على يد البطريرك الحويك. وتوفى قبل شهور قليلة من اكتمال مئويته الأولى. حمى هذا "اللبنان" وحجمه كما لو أنه توأم له، لا أكبر (على قياس الحركات القومية) ولا أصغر (على قياس التقسيميين وهواة الكانتونات). ولعلّ رعايته المشهودة لاتفاق الطائف في نهاية الثمانينات كانت خير برهان على تمسّكه بلبنان ك "وطن نهائي" وبعروبته التي أتقن لغتها مثله مثل كبار الأدباء العرب.

وحده من بين الموارنة أدرك باكراً أن "الوحدة الوطنية" شرط أساسي أو ممرّ إلزامي للاستقلال، حتى اذا ما انسحب الاحتلال الاسرائيلي من الجنوب العام ٢٠٠٠ وجد الفرصة مؤاتية لإطلاق كرة ثلج (نداء مجلس المطارنة) ترعرعت وكبرت بعد خمس سنوات مع استشهاد الرئيس رفيق الحريري.. فاستحقّ لقب "بطريرك الاستقلال الثاني".

ربّما أدرك هذه العلاقة الجدلية بين "الوحدة" و "الاستقلال" كونه عايش الاستقلال الأول (بعمر ٢٣ عاماً) ونجاحاته وإخفاقاته. واختبر عن قرب مشقّة الأخوّة لدى شعب سرعان ما يتحوّل الى "شعوب" كلّما استجدّ طارئ في مكان ما من العالم.

كثيرون من البطاركة سبقوه الى الزهد، فتواضعوا أمام الفقراء والمحتاجين احتراماً لمشاعرهم. أما هو فبلغ زهده حدّ الحرص على احترام المقام الذي يمثّله. يوم كشفت الزميلة جريدة "الشرق" خبر استقالة البطريرك صفير ذات صباح من العام ٢٠١١، سارعت الى بكركي طالباً من أمين سرّه الأب الراحل ميشال عويط مقابلته بدون موعد "ولو على الواقف". وبعد الاطمئنان الى صحّته سألته: صحيح أنك استقلت يا سيّدنا؟ فأجاب: "نعم". سألته ثانية: "لماذا استقلت يا سيّدنا؟ فقال: "أتريد أن يقال أن بطريرك

الموارنة خرفان؟" فقلت: ولكن يا سيدنا أنت بكامل قواك العقلية والبدنية والحمدلله فمن أين أتيت بالخرف؟ أجاب: "صار عمري ٩١ عاماً وقد يداهمني مرض الخرف بعد أسبوع أو شهر أو عام، فلماذا أعّرض المقام الذي أمثّله لمثل هذا الاحتمال؟ لا يجوز أن يصاب البطريرك بهذا المرض وهو في سدة المسؤولية".

لا تكفي سطور قليلة لاختصار تجربة واحد من كبار بطاركة أنطاكية وسائر المشرق، لكن مار نصرالله بطرس صفير استحقّ عن حقّ شعار "مجد لبنان أعطي له".. وتوأم "لبنان الكبير" أيضاً.