رحل ولما يبلغ المئة عام لكنه بلغ كالشرارة كل ربيعٍ وكل صوتٍ يرتفع بالحرية وكل قلبٍ يخفق بالسيادة وكل يدٍ تمتد وتحمل رياحين الصمود والمواجهة.
رحلت قامةٌ امتدت جذورها في كل أرزةٍ في لبنان وكل سنديانة ووردة. من قال أن البطرك أيقونة الموارنة فقط؟ أو أيقونة بكركي أو حتى أيقونة لبنان؟ إنه صورة حملها كل منادٍ بالديمقراطية وكل منقذٍ لبلده من احتلال أو وصاية. كأنه في سماحة وجهه وقسماته وصوته وقامته مختزنة اللاءات أو النداءات: لبنان للبنانيين، مصر للمصريين، تونس للتونسيين، سوريا للسوريين. لهذا لم يعرف تمسكه بلبنان انعزالاً أو مذهبية أو عنصرية أو قومية مغلقة أو شعباً منزوياً دون الآخرين. فتحرير وطنه يعني في مفهومه تحرير كل وطن آخر، وانفتاحه على المسيحين انفتاح على كل المعتقدات، ولم يكن البطرك لا مجرد زعيم طائفة ولا عشيرة ولامنطقة بل حاضن الجموع والمؤمنين بأرضهم وبربهم على تعداد وجهاتهم وانتماءاتهم وشعائرهم. البطرك هو شاهد الجذور، جذور الارتباط بالأرض. تلك الجذور الحية تستنبت انتصارات المستقبل. جذوره تمتد إلى كل ما يعدُ به من أفكار ومن مشاعر ومن انفتاح. جذوره كالأرز لكن ككل أرزة تحلم بتاريخها. لكنه لم يكن منظراً للجذور فيقع في الماضوية ولا داعماً لمن يتمسك بها ليبقى خارج التاريخ والحياة والحاضر والمستقبل. إنه ابن التاريخ ابن وطنٍ ذي تاريخ وشعب ذي تاريخ: ألم يقل نحن قوم نحب الحرية، وانطلق في مقاومته كل من يحتل لبنان ويجعله جزءاً من سواه، أو ملحقاً به. هكذا وقف تلك الوقفة السامقة وقال فليخرج الجيش السوري من لبنان. فلتخرج تلك الجيوش التي تنشر الرعب في أرجائه وتنهب خيراته وتذل شعبه وتسرق حرياته وتدمر ديمقراطياته وتستبيح حدوده ودستوره ودولته.
لن يصادرنا أحد ليرمينا في لبنان آخر، لبناناً صغيراً كان أم من صنع الآخرين. فها هو يجتمع في البدايات قيادات تلتقيه لترسيم طرق نظام آل الأسد. وها هو بخطى واثقة يمد يده إلى الآخرين وتحديداً إلى الشهيد رفيق الحريري الذي توأمه بدمه في ثورة الأرز: الحريري بشهادته ونصر الله بصموده.
الاول كانه رفيقه المنتظر، الذي قال عنه ذات يوم: "كلام البطرك صفير بطرك الكلام". كأنها كلمة السر والعلن لينطلق الربيع اللبناني ويخرج الجيش السوري بتحركاته المليونية السلمية. الحريري لم يكحل عينيه بتحرير بلده. وكان للبطرك أن يكحلهما مرتين مرة عنه، وأخرى عن الحريري.
رحل البطرك بطريرك الربيع الأول بطريرك الاستقلال الثاني وها هو لبنان يودعه من أقصاه إلى أقصاه. لاقته الجموع على الطرقات في مروره إلى مثواه الأخير والنوافذ والسطوح وبدموعها: هل تكفي كل هذه الدموع في تشييع رجلٍ جعل من دمعته الكامنة أيقونة للخلاص والإيمان والحرية.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.