في حياتنا السياسية مفارقات سوريالية كثيرة، لكن أكثرها نفوراً في الآونة الأخيرة اتّهام "حزب الله" تيار "المستقبل" بالفساد تحت عنوان "السياسات الإقتصادية منذ العام 1993"، أي حقبة الرئيس الشهيد رفيق الحريري مروراً بحكومتي الرئيس فؤاد السنيورة، وصولاً إلى حكومتي الرئيس سعد الحريري السابقتين.
طبعاً إن إتهام أي حزب أي فريق سياسي آخر بالفساد أو بغيره هو حقّ ديمقراطي لا يخضع للنقاش، أما إتهام "حزب الله" بالتحديد لتيار "المستقبل" بملف الفساد بالتحديد فهو المفارقة الغريبة بعينها. فمن يتهم هنا هو "حزب الله"، أي المتَّهم عينه، الذي عاث بالبلاد فساداً وخراباً وتهريباً ورهائن وكبتاغون منذ تأسيسه العام 1982. كما أمعن في تصدير الفساد على أنواعه إلى دنيا العرب والعالم.
لن يتّسع المجال هنا لعرض مسلسل هذه التجربة الحافلة بالفساد والإفساد من "يحيى تلكوم" الى المرافئ الحدودية وغيرها، لكن ينبغي وضع هذا العنوان المثار في إطاره لفهم خلفياته من جهة، ومساره من جهة ثانية.
من نافل القول إنّ انقلاب الأدوار في لبنان بين الجلّاد والضحيّة أصبح ثقافة في حياتنا السياسية تترسّخ يوماً بعد يوم، بسبب غياب القانون، بحيث لا يخجل الجلّاد من اتهام الضحيّة بما فَعَل، وثمة أمثلة لا تُحصى ولا تُعدّ في هذا الصدد.
وإذا كان هذا المفهوم وُلد خلال الحرب الأهلية، فهو ترسّخ أكثر وأكثر مع انتهائها وبزوغ فجر السلم الأهلي، وتحديداً مع وصول رفيق الحريري الى الحكم. ذلك أن المرحلة الانتقالية الفاصلة بين موعد انتهاء الحرب (إقرار اتفاق الطائف) العام 1990 وبين وصول رفيق الحريري الى السلبطة العام 1992، هي الحقبة التي انطلقت فيها الوصاية السورية على لبنان وأمسكت بكل مفاصله الدستورية، وحدّدت مفاهيمه السياسة الجديدة التي ستمتد لعقد ونصف عقد من الزمن.
في السنتين المذكورتين لم يكتف النظام السوري بوضع يده على البلد، وانما بدلاً من طي صفحة الحرب بكامل عدتها عمد هذا النظام الى إعادة تلميع صورة رموز الحرب وتكريسهم رعاة لمرحلة السلم الأهلي في حكومتي ما بعد الطائف، ومن ثم في انتخابات 1992 النيابية.
في ظلّ هذا الأمر الواقع وصل رفيق الحريري الى السراي الحكومي محملاً بشحنات من الأحلام سرعان ما اصطدمت بالطبقة السياسية الجديدة، وتحديداً معظم رموز الحرب الذين كانوا احتلّوا مواقع أساسية في مجلسي النواب والوزراء. وبدلاً من أن يكون المسار الطبيعي للأمور أن يحاسب رائد السلم الأهلي رفيق الحريري رموز الحرب، انقلبت الآية وتناوب هؤلاء الرموز على محاسبة الحريري نفسه بتهم الفساد وغيرها. وانتقلت قوى الحرب التي دمّرت الحجر والبشر وقتلت مئات الآلاف من اللبنانيين وهجّرت مئات أخرى، ودمّرت قطاعات الكهرباء والاتصالات والسياحة والمرافئ والفنادق والبنى التحتية، وأعادت لبنان خمسين عاماً الى الوراء، الى موقع المحاسب لرفيق الحريري، أي الرجل الذي جاء ليمحو آثار ما فعلوه.
في تلك اللحظة انقلبت الأدوار بين الجلّاد والضحيّة، لم يخجل معظم هؤلاء من الصراخ عالياً في وجه رفيق الحريري متّهمين إياه بالفساد، وهو في عزّ ورشة تنظيف لبنان من مفاسدهم. أليست أزمة الكهرباء التي يعاني منها اللبنانيون حتى اليوم، ورغم مرور نحو ثلاثين عاماً على انتهاء الحرب، واحدةً من آثار الحرب الأهلية وميليشياتها؟
ما فعلته بقايا ميليشيات الحرب الأهلية مع رفيق الحريري، يكررّه "حزب الله"، آخر ميليشيا في لبنان، اليوم مع رفيق الحريري وسعد الحريري، ربّما يريد الحزب القيام بإعادة تموضع سياسية تجعله أكثر اندماجاً في الحياة السياسية والادارية تمهيداً لانسحابه من سوريا وأزمات المنطقة. وربّما يسعى لاعادة تموضع طائفية يريد من خلالها تقاسم النفود والادارة مع رئيس مجلس النواب نبيه بريّ. هذا شأنه. أما استعادة تجربة إميل لحود أو أن تمر طريق الاصلاح المزعوم (مكافحة الفساد) على جثة رفيق الحريري، فهذا خط أحمر.
ربّ قائل أن القصد من هذا الكلام "تبرئة" رفيق الحريري وهو "فاسد". الجواب بسؤال بسيط: من هو الفاسد؟ من يخسر ثروته في السلطة، أم من يجني ثروة من السلطة؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.