ما زالت ايران عاجزة عن استيعاب ان العالم تغيّر وان ليس في الإمكان التعاطي مع المعطيات الدولية الجديدة باساليب قديمة من نوع الاعتداء على المملكة العربية السعودية وعلى ناقلات نفط او مشتقات بتروكيميائية للردّ على العقوبات الاميركية. ما يدلّ على انّ ما قامت به ايران لم يؤد الى النتائج المرجوّة غياب ايّ ارتفاع لاسعار النفط. في الواقع، تغيّر العالم الى درجة لم يعد اعتداء على ناقلات في الخليج يؤثر على الأسعار. هناك وفرة نفطية كبيرة في العالم. لا يزال الخليج مهمّا كمصدر للطاقة، لكنّ التحكّم بأسعار النفط صار في مكان مختلف. صار في اميركا تحديدا. كشف عدم تغيّر سعر النفط ايران...
ما الذي ستفعله ايران من اجل التخلّص من العقوبات الاميركية التي اثرّت فعلا على اقتصادها، خصوصا ان الثورة الايرانية التي زاد عمرها على أربعين عاما لم تستطع تحقيق وعد بالتخلص من الاعتماد على الدخل الذي مصدره النفط والغاز
الملفت ان ايران تردّ بطرق ملتوية على الحرب الاقتصادية التي تشنها الإدارة الاميركية عليها. تمارس سياسة ايران حافة الهاوية بهدف جرّ الولايات المتحدة الى مواجهة عسكرية محدودة تنتهي بمنع الرئيس دونالد ترامب من الحصول على ولاية أخرى نتيجة الانتخابات الرئاسية المقرّرة في خريف 2020. من الواضح ان ايران لا تستطيع تحمل ولاية ثانية لترامب تمتد الى مطلع السنة 2025. إضافة الى ذلك، انّها تعرف تماما ان الجوّ في واشنطن ليس جوّ حرب وانّ الرئيس الاميركي نفسه ليس راغبا في هذا النوع من المغامرات. لا يمكن تجاهل ان إدارة ترامب ليست في وارد شنّ حرب على ايران حتّى لو اعتدت على مزيد من الناقلات في الخليج وحتّى لو استمرت اعتداءات الحوثيين على المملكة العربية السعودية انطلاقا من اليمن.
هناك تفضيل أميركي للحرب الاقتصادية التي تقوم على فرض مزيد من العقوبات على ايران وصولا الى تمكينها من تصدير كمية محدودة من النفط والغاز، أي ما يكفي لتفادي مجاعة. الأكيد ان النظام الايراني سيقاوم سياسة العقوبات ويعتقد انّ في استطاعته التخلّص منها عن طريق ضربات هنا وهناك وهنالك... تؤكد انّ لديه أوراقا كثيرة في مختلف انحاء المنطقة. ليس صدفة انّ الاعتداء على ناقلتي المواد البترو كيميائية في خليج عُمان ترافق مع اطلاق صاروخ من قطاع غزّة في اتجاه بلدة إسرائيلية.
هناك جبهات عدّة تستخدمها ايران حاليا. تستخدم الحوثيين في اليمن من اجل ضرب اهداف مدنية او اقتصادية في السعودية. هاجم الحوثيون (انصار الله) منشآت نفطية ومطار ابها. بقدرة قادر، صارت لديهم صواريخ بعيدة المدى وطائرات من دون طيّار تحمل مواد متفجّرة. وضربت فصائل فلسطينية أهدافا في إسرائيل انطلاقا من قطاع غزّة في ما يمكن وصفه بعمليات عبثية يذهب ضحيتها في نهاية المطاف فقراء فلسطينيون نظرا الى ان الرد الإسرائيلي لا يفرّق بين اهداف لـ"حماس" او لـ"الجهاد الإسلامي". غالبا ما يذهب ضحية هذا الردّ الوحشي مدنيون فلسطينيون بينهم أطفال ونساء. ولكن ما قيمة هذه الأرواح البشرية ما دامت ارواحا فلسطينية تموت كي تحيا ايران؟
يبدو الرهان الايراني على مفاوضات من موقع قوّة مع الجانب الاميركي، على ان تأخذ الإدارة الاميركية في الاعتبار وجود اتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني يطلق يد طهران في المنطقة. هل هذا وارد؟
في الواقع، ان جوهر الحرب الدائرة حاليا هو الدور الايراني خارج حدود ايران. لعلّ اهمّ النقاط المطروحة حاليا مستقبل الدور الايراني في المنطقة. ما تفعله ايران مباشرة او غير مباشرة، عبر "الحرس الثوري" في مياه الخليج والحوثيين في اليمن وعملائها الفلسطينيين في غزّة وما يمكن ان تفعله مستقبلا عبر ميليشياتها المذهبية في العراق وسوريا ولبنان وأفغانستان، هو ما يشكو منه العالم عموما والدول العربية خصوصا.
لا يمكن للاعتداء على ناقلات في الخليج ان يؤمن شروطا مختلفة لاي مفاوضات أميركية – إيرانية. لا يستطيع الوسطاء، اكانوا من اليابان او سويسرا او المانيا او سلطنة عمان عمل شيء يذكر في غياب القدرة على اقناع النظام الايراني بانّ العالم تغيّر وانّ الابتزاز لا يقدّم ولا يؤخّر وانّ الايّام التي كانت الإدارة الاميركية تبحث عن طريقة للتفاوض مع ايران بعد احتجاز ديبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران ولّت الى غير رجعة. السنة 2019 ليست السنة 1979. هناك مسافة 40 عاما تفصل بين السنتين. ما يكرّس وجود الفارق بين السنتين عدم اهتزاز أسعار النفط بعد الاعتداء الأخير على الناقلتين.
هناك خيار واحد امام ايران. تكمن مشكلة هذا الخيار في ان اعتماده سيعني في احسن الأحوال تغيير النظام. يقوم هذا الخيار على التفاوض مع الاميركيين استنادا الى النقاط الـ12 التي وضعتها الإدارة الاميركية. في صلب هذه النقاط توقف ايران عن لعب دور الدولة الإقليمية المهيمنة. ايّام تصدير الثورة انتهت. لم تجرّ الثورة على ايران سوى الفقر والتخلّف ولم تجرّ على الدول التي تدخلت فيها ايران سوى مزيد من البؤس. يظلّ لبنان، الذي كان مزدهرا في الماضي، افضل دليل على ما يمكن ان ترتكبه ايران خارج حدودها في مجال تمزيق النسيج الاجتماعي لهذه الدولة العربية او تلك.
يُفترض ان يكون في طهران طرف قادر على التعاطي مع الواقع بدل الهرب منه. لن تتمكن ايران في يوم من الايّام تعطيل الملاحة في الخليج. ليست هناك، الى اشعار آخر، دولة في العالم على استعداد لتحدي العقوبات الاميركية. يظل الحل في الاعتراف بالواقع وموازين القوى. تسمح موازين القوى للإدارة الاميركية بمتابعة الحرب الاقتصادية على ايران. امّا الرهان على اسقاط ترامب في انتخابات خريف 2020، فيظل مجازفة كبيرة في ضوء قدرة الرجل على المناورة وتفادي المواجهة العسكرية المحدودة المطلوب منه خوضها. تبقى مثل هذه المواجهة مجازفة كبيرة أيضا لانّ ليس ما يضمن بقاءها محدودة من جهة ولا خروج ايران منتصرة منها من جهة أخرى.
باختصار، ليس ما يضمن انتصارا إيرانيا على إدارة أميركية يبدو انّها ستلجأ الى أسلحة متطورة وفتاكة في حال اضطرارها الى ذلك. يظل التراجع الخيار الأفضل امام ايران. مثل هذا التراجع يعني الاعتراف بالفشل اوّلا وبان ليس لدى "الجمهورية الإسلامية" ما تصدّره الى خارج حدودها ثانيا واخيرا. فاذا كان هناك ما اكدّته السنوات الأربعين الماضية، فان هذه السنوات اكدت امرا واحدا هو انّ الميليشيات المذهبية التابعة لإيران لا تمتلك ايّ ميزة إيجابية. يمكن لهذه الميليشيات ان تقضي فقط على ما بقي من مؤسسات الدول التي نبتت فيها اكان في العراق او سوريا او لبنان او اليمن...
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.