هناك مأزق يمني مستمرّ على كلّ المستويات. لعلّ اكثر ما يعبّر عن هذا المأزق ممارسات الحوثيين في شمال الشمال اليمني منذ سيطرتهم على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول- سبتمبر 2014. ما يتبادر الى الذهن قبل ايّ شيء آخر هو الجو الحزين السائد في العاصمة اليمنية التي كانت في طريق التحوّل الى مدينة يصلح العيش فيها في السنوات العشر الأخيرة من حكم علي عبدالله صالح. يروي الذين زاروا صنعاء في الفترة الماضية انّ لا شيء في المدينة العريقة غير البؤس. لم تعد لصنعاء علاقة بصنعاء التي كان يعرفها زوّارها والتي اصبحت فيها أماكن لهو ومقاه كثيرة. هناك ظلم ليس بعده ظلم لحق باهل المدينة التي استقبلت مواطنين من كلّ المناطق اليمنية. لم تغلق صنعاء أبوابها في وجه احد في يوم من الايّام.
ما الذي فعلته صنعاء ليقع عليها كلّ هذا الظلم وكي تتحوّل الى نسخة عن غزّة بعد سيطرة "حماس" عليها ابتداء من منتصف العام 2007؟ الأكيد ان صنعاء لا تستأهل هذا المصير الذي هو تعبير عن انتصار ثقافة الموت على ثقافة الحياة. ترمز صنعاء حاليا الى عمق المأزق اليمني بوجهه الايراني، خصوصا انّ ليس ما يشير الى قرب انتهاء الاحتلال الحوثي للمدينة. اكثر من ذلك، ارتكبت الامم المتحدة عبر مبعوثها مارتن غريفيث خطأ كبيرا عندما اضفت شرعية على الوجود الحوثي في صنعاء واعتبرت انّ الازمة هي بين "الشرعية" ممثلة بالرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي من جهة و"انصار الله" من جهة أخرى.
مثل هذا الخطأ لغريفيث لا يؤدي سوى الى تعميق المأزق اليمني ومأساة صنعاء والمدن اليمنية الأخرى، بما في ذلك تعز وعدن. يعود ذلك الى ان الحوثي ليس حلّا... كما نّ "الشرعية" ليست حلّا أيضا. الدليل على ذلك انّ "الشرعية" لم تتمكن من تحقيق ايّ تغيير ذي معنى على الأرض منذ سنوات عدّة. قريبا سيدخل الاحتلال الحوثي لصنعاء سنته السادسة. لكنّ الوضع على الأرض سيبقى يراوح مكانه في غياب أي قدرة لدى "الشرعية" على تحقيق اختراق عسكري أساسي على احدى الجبهات الأساسية، بما يجعل "انصار الله" ومن يقف خلفهم يعيدون النظر في حسابتهم.
لا شكّ انّ "عاصفة الحزم" التي انطلقت في آذار – مارس 2015 حققت الكثير. حالت اوّلا دون سيطرة الحوثيين، الذي ليسوا في نهاية المطاف سوى أداة إيرانية، على كلّ اليمن. من يريد ان يتذكّر ان سيطرة الحوثيين على صنعاء تلتها اندفاعة نحو الجنوب وصولا الى عدن وميناء المخّا؟
بذل التحالف العربي جهودا كبيرة لاستعادة عدن وحال دون تمكن ايران من الادعاء بانّها تستطيع السيطرة على ميناء المخا وبالتالي اعلاق مضيق باب المندب الذي هو مضيق دولي والمدخل الى قناة السويس. ليس سرّا ان باب المندب يعتبر من اهمّ الممرات المائية في العالم وكانت سيطرة الحوثيين عليه موضع تبجّح إيراني. تحدّث وقتذاك غير مسؤول في "الجمهورية الإسلامية" عن سيطرة ايران على مضيقي هرمز وباب المندب وتحكّمها بهما. كانت استعادة ميناء المخا بمثابة سحب ورقة ابتزاز ارادت ايران استخدامها انطلاقا من وجودها المباشر وغير المباشر في اليمن.
ادّت "عاصفة الحزم" جزءا من المطلوب، لكنّ السرّ الذي لا يزال سرّا، بل لغزا، لماذا كان هذا الإصرار، منذ البداية، على توفير الامم المتحدة تغطية للوجود الحوثي في صنعاء. فمباشرة بعد سيطرة ميليشيات "انصار الله" على صنعاء، وافق عبد ربّه منصور على توقيع اتفاق معهم باركه جمال بنعمر مبعوث العام للأمم المتحدة وقتذاك. ليس ما يفعله غريفيث حاليا سوى استكمال لذلك الاتفاق الذي لم يحترم الحوثيون حرفا منه على الرغم من كلّ الخدمات التي قدّمها لهم الرئيس الموقت الذي لم يكن لديه همّ سوى الانتقام من علي عبدالله صالح وكأن المسألة مسألة حسابات شخصية معه. لم يكتف الحوثيون بالحصول على اعتراف من الامم المتحدة بشرعيتهم وصولا الى تكريس هذه الشرعية عبر اتفاق استوكهولم، بل عمدوا فورا الى وضع الرئيس الانتقالي في الإقامة الجبرية في صنعاء. استطاع عبد ربّه منصور الهرب بجلده في شباط – فبراير 2015 والانتقال الى عدن. لكن الحوثيين ما لبثوا انّ صفوا حسابا قديما مع عدوّهم اللدود علي عبدالله صالح الذي صفّوه بدم بارد في كانون الاوّل – ديسمبر 2017 داخل منزله في صنعاء.
سيستمرّ المأزق اليمني طويلا ما دام ليس هناك تغيير على الجبهات. سيناور الحوثيون بكلّ الوسائل من اجل البقاء في الحديدة. خلاصة الامر ان المأزق اليمني سيتعمّق يوما بعد يوم ما دام ليس هناك أي تغيير جذري على احدى الجبهات الأساسية.
لعلّ اخطر ما في الامر انّ ليس ما يشير الى انّ "الشرعية" قادرة ان تكون في مستوى الاحداث. جعلت نفسها على هامش هذه الاحداث سياسيا وعسكريا فيما المنطقة كلّها تغلي. لم يعد موضوع اليمن مرتبطا باليمن وحده بمقدار ما صار مرتبطا بما يدور في المنطقة والنهاية التي ستستقرّ عندها المواجهة الاميركية – الايرانية.
في انتظار ذلك، سيبقى اهل صنعاء يعانون من الظلم، كذلك أبناء كلّ المناطق اليمنية التي انتشر فيها الجوع والمرض والجهل. لكنّ صنعاء تبقى في البال دائما. الأكيد انّها تستحق افضل من الحوثيين الذين يدينون بالكثير للحلف السرّي غير المقدس الذي اقاموه مع الاخوان المسلمين. هؤلاء جزء من "الشرعية" اليمنية الآن. وكلما مرّ الوقت، يتبيّن ان لا نيّة لديهم في تحقيق أي اختراق عسكري على أي جبهة من الجبهات، بل يجدون مصلحتهم في بقاء الجمود العسكري على حاله.
نعم، صار مصير اليمن معلّقا على المعركة الكبرى الدائرة في المنطقة. ما دام النظام الايراني موجودا، سيقى الحوثيون في صنعاء وسيبقى اهل صنعاء يعيشون حياة لا يستأهلونها، تماما كما يعيش اهل غزّة تحت جزمة "حماس" و"الجهاد الإسلامي". الأكيد ان اليمن يستأهل افضل من ذلك كلّه بكثير، على الرغم من انّ لمأزقه وجوها عدّة ليس عبد الملك الحوثي سوى احدها. فما يسمّى "الشرعية" وجه آخر للمأزق، كذلك ذلك الإصرار غير المبرّر لدى المبعوث الاممي على الرهان على ان في الإمكان اخراج الحوثيين من الحديدة ووضع الميناء تحت سيطرة قوّة دولية.
كان الخروج من المأزق اليمني ممكنا في الماضي لو كانت "الشرعية" قادرة على تحقيق حسم عسكري ما على جبهة مهمّة ما. الآن، يبدو كلّ شيء معلّقا على ما يدور في الاقليم وعلى النتائج التي ستسفر عنها المواجهة الاميركية – الايرانية والوضع الذي ستكون فيه ايران لدى انتهاء هذه المواجهة...
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.