قبل خمسين عاما، سار رجل على القمر. كانت تلك بداية النهاية للحرب الباردة التي توجت بسقوط حائط برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989. تجددت هذه الحرب لاحقا ولكن بطرق ووسائل مختلفة.
هناك حرب باردة جديدة ليس معروفا كيف يمكن ان تنتهي في عالم يزداد جنونا في ظل العجز الاميركي عن اخذ العالم الى مكان اكثر امانا، فيما لا وجود لاستيعاب روسي لمعنى سقوط الاتحاد السوفياتي وانهياره ولا لوعي صيني لخطورة ممارسة سياسة، تقوم على جمع الثروة، خالية من أي بعد انساني.
لا يدلّ على مدى الانتهازية الصينية اكثر من الفيتو الذي استخدمته بيجينغ مرات عدّة منذ العام 2011 في مجلس الامن لحماية نظام سوري لا همّ له سوى التنكيل بشعبه من اجل اخضاعه. ليس معروفا لماذا كلّ هذا الحرص الصيني على الانضمام الى روسيا في ممارسة حق الفيتو في مجلس الامن من اجل استمرار الحرب على الشعب السوري؟
في العشرين من تموز – يوليو 1969، كانت الخطوات الاولى لنيل ارمسترونغ، رائد الفضاء الاميركي، على سطح القمر. قبل ذلك، لم يكن سكان الكرة الأرضية يعرفون الكثير عن القمر باستثناء ما ورد في الأغاني عنه، بما في ذلك اغنية السيدة فيروز التي عنوانها "نحن والقمر جيران" (1957).
احتاج الفريق المؤلف من ثلاثة رواد فضاء هم نيل ارمسترونغ وباز الدرين ومايكل كولينز الى أربعة أيام لبلوغ القمر. كان ارمسترونغ اول من نزل على سطح القمر وتلاه الدرين، فيما بقي كولينز في كبسولة دارت حول القمر والتقطت الرائدين مجددا واعادتهما الى الأرض في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون.
قام الاميركيون برحلات اخرى عدّة الى القمر. هناك اثنا عشر اميركيا ساروا على القمر، لا يزال بينهم أربعة احياء. لا يزال باز الدرين حيّا، قال في مناسبة الذكرى الخمسين للرحلة "كنا نشعر كفريق بثقل العالم كله على اكتافنا، كنا نعرف انّ العالم كله ينظر الينا، الأصدقاء كما الأعداء". في الواقع، كان العالم كلّه ينظر الى رحلة "ابولو- 11" الى القمر وهل ستتفوّق الولايات المتحدة على الاتحاد السوفياتي في مجال التكنولوجيا، خصوصا بعد نجاح موسكو في الثاني عشر من نيسان – ابريل 1961 في ارسال يوري غاغارين، الى الفضاء ليقوم بدورة حول الكرة الأرضية.
في ستينات القرن الماضي، كان الصراع على اشدّه بين النظامين الشيوعي والرأسمالي. جاءت خطوات نيل ارمسترونغ على القمر لتؤكد ان الولايات المتحدة ستكون صاحبة الكلمة الأخيرة في الصراع. كانت رحلة "ابولو -11" بمثابة ضربة قاضية للاتحاد السوفياتي الذي اظهر انه غير قادر على اللحاق بالولايات المتحدة في مجال التقدّم التكنولوجي على الرغم من كلّ الصواريخ البعيدة المدى والقنابل النووية التي امتلكها. بعد الرحلة التي قام بها الرواد الاميركيون الثلاثة الى القمر، لم يستطع الاتحاد السوفياتي تحقيق أي تقدّم يذكر في مجال غزو الفضاء او الردّ على الاميركيين. فضّل الردّ على الأرض عن طريق حروب كثيرة انحاء مختلفة من العالم. صار له موطئ قدم في اليمن حيث وضع جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي) في جيبه وسيطر على اثيوبيا الدولة المهمة في القرن الافريقي. تحوّل الاتحاد السوفياتي شيئا فشيئا الى قوة مهيمنة، خصوصا بعد قمع بريجنيف لـ"ربيع براغ" في العام 1968 مستندا الى نظرية "السيادة المحدودة" التي باشر تطبيقها أوروبا الشرقية.
لم يحل غزو القمر دون هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام التي انسحب منها آخر جندي أميركي في الثلاثين من نيسان – ابريل 1975، لكن رونالد ريغان ما لبث ان استعاد المبادرة ووجه ضربة قويّة الى "امبراطورية الشر" عندما جرّ الاتحاد السوفياتي الى حرب وهمية هي "حرب النجوم" التي كشفت مدى ضعف القوة العظمى الأخرى في العالم على الصعيد الاقتصادي اوّلا.
بعد خمسين عاما على السير على القمر، لم يعد العالم اكثر امانا ولا الولايات المتحدة اكثر إنسانية في ظلّ رئيس هو دونالد ترامب لا يعرف الكثير عن العالم باستثناء ان ادارته تعرف جيدا ما الذي تمثّله ايران، كنظام، ومدى خطورتها على الاستقرارين الإقليمي والعالمي.
لم يكن النزول على القمر مجرّد بداية النهاية للحرب الباردة فحسب، كان أيضا فرصة كي تظهر الولايات المتحدة انّها قادرة على ممارسة دور القوة العظمى القادرة على فرض الترويج لعالم اقل وحشية. لم يحصل ذلك باي شكل بسبب أخطاء كثيرة ارتكبتها الإدارات التي تعاقبت منذ العام 1969. ريتشارد نيكسون، الذي قام في 1972 بزيارته التاريخية للصين، لم يستطع اكمال ولايته بسبب فضيحة ووترغيت. اضطر الى الاستقالة في 1974. خلفه جيرالد فورد الذي لم يكن في مستوى الرؤساء الكبار، في حين لم يكن جيمي كارتر سوى رئيس ضعيف سمح لإيران بضرب هيبة الولايات المتحدة عندما عجز عن الردّ على احتجاز الديبلوماسيين الاميركيين في طهران. امّا رونالد ريغان، الذي حقّق الكثير في مواجهته للاتحاد السوفياتي، فكان ضحيّة الصفقة التي عقدها مع ايران والتي سمحت له بالانتصار على جيمي كارتر ومنعه من الفوز بولاية رئاسية جديدة في خريف 1980. كان كافيا ان تطلق ايران الرهائن الاميركيين قبل موعد الانتخابات الرئاسية كي يعود كارتر الى البيت الأبيض، لكنها فضلت اللعب من تحت الطاولة مع ريغان الذي كافأها على خدماتها بتغاضيه عن نسف السفارة الاميركية ومقر المارينز في بيروت في العام 1983.
لا حاجة الى العودة الى عهد جورج بوش الاب الذي انشغل بمغامرة صدّام حسين في الكويت وكيفية وضع نهاية لها ولا بالسياسة البراغماتية لبيل كلينتون الذي امضى ثماني سنوات يدور الزوايا قبل ان يخلفه بوش الابن الذي تسبب بالزلزال العراقي في العام 2003 بعدما فشل في الرد بشكل مناسب على غزوتي نيويورك وواشنطن اللتين قام بهما ارهابيون عرب تابعون لاسامة بن لادن في الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001.
اخذ باراك أوباما اميركا الى مكان آخر بسبب سياسته المعادية لكلّ ما هو عربي واختزاله أزمات الشرق الاوسط بالملف النووي الايراني، مع ما يعنيه ذلك من سقوط في الفخ الذي نصبته له الجمهورية الإسلامية.
بعد نصف قرن على الخطوات الاولى على القمر، ستعود الولايات المتحدة اليه في السنة 2024، على الأرجح. هذا ما يريده دونالد ترامب. قد تعود وقد لا تعود، ذلك ان هناك جدلا واسعا محوره الفائدة من مثل هذه العودة. لكن السؤال يبقى أي اميركا ستعود الى القمر... هل ستكون اكثر إنسانية واكثر فهما لما يدور في العالم. لا شكّ ان الأشهر القليلة المقبلة ستكون حاسمة. سيعتمد الكثير على ما اذا كانت اميركا ستعرف قبل التفكير في القمر كيف تردّ على التحدي الأكبر الذي يواجهها حاليا على الارض واسمه ايران...
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.