بعيداً من الوقائع السريعة لعملية التسليم والتسلم بين بول بريمر والرئيس غازي الياور ورئيس الوزراء اياد علاوي، فإن انتقال "السيادة" الى العراقيين وإلغاء "الاحتلال" أميركياً، يعدان تطوّراً كبيراً وحدثاً مهماً في المرحلة الحاضرة التي يمر بها العراق، وبرغم كل التحفظات حول حقيقة نقل السيادة، وطبيعة ممارسة العراقيين لسيادتهم مع انتشار130 ألف جندي أميركي فوق أرضهم، فإنه يجب الاعتراف بأن جون نغروبونتي ليس خلفاً لبول بريمر، بل هو سفير أميركي مع نفوذ ضخم وغير مسبوق في العلاقات الدولية لدى الحكومة العراقية الموقتة. والفارق كبير بين مندوب سام مارس سلطاته بـ"ديكتاتورية" وسفير يتمتع بالنفوذ، لكنه يبقى ممثلاً لحكومته لدى العراق.
وبداية فإن احتفال الدقائق العشر لدخول العراق مرحلة جديدة، وحالة مختلفة عن السابق، وكذلك ورقة البلاغ والتبليغ التي مررتها كونداليزا رايس الى الرئيس جورج بوش حول "تمتع العراق بالسيادة"، لم تخدع العراقيين فهم باتوا واقعيين لا ينتظرون نتائج ضخمة على مثال أن العراق سيصبح دولة القانون والسيادة فور التحرير وأن الأميركيين سيقدمون لهم السيادة والإعمار والبناء هدية اليهم ثم يخرجون بعد أسابيع من التحرير والاحتلال.
العراقيون اليوم، وبعد أكثر من عام من الدماء والدموع والاحتلال، وصولاً الى ا لسيادة المنقوصة، لا يذهبون في آمالهم الى درجة السقوط في الأوهام، ومن ثَمّ اليأس. فهم يريدون الأمن والعمل. ولا شك في أن العراقيين سيتابعون ويلاحقون يومياً تطوّر خروجهم من جحيم البطالة الذي تجاوزت نسبتها نصف اليد العاملة، وفي الوقت نفسه سيتابعون اياد علاوي، الممسك بالملف الأمني، كيف سينجح أولاً في إنجاز مصالحة مطلوبة وملحة بين المواطن العراقي وأجهزة الأمن وذلك بإعادة الثقة لدى هذا المواطن بأن رجل الأمن في خدمته ولحمايته لا لإرهابه وقمعه.
وفي الوقت نفسه سيتابع العراقيون يومياً وعلى الأرض "مدى خدمة هذه الحكومة الموقتة للعراقيين وليس للأميركيين". وكلما خدمتهم، اكتسبت الشرعية الشعبية التي تؤهل رئيسيها وأعضاءها للتحول من شخصيات جاءت من الخارج على أجنحة الأميركيين وتمت تسميتهم من بول بريمر، الى سياسيين يمارسون أدوارهم ويأخذون مواقعهم حاضراً وفي المستقبل استناداً الى هذه الشرعية المكتسبة!
لقد غزت الولايات المتحدة العراق ليس لأن الرئيس صدام حسين كان خطراً داهماً أو حقيقياً عليها، ولكن الحرب واحتلال العراق وفّرا للولايات المتحدة مصالح اقتصادية واستراتيجية ضخمة وهي في مطلع قرن جديد. هذا من دون تناسي الأهداف الايديولوجية للمحافظين المتشدّدين، والتي تكسرت على صخور الواقع العراقي، لكنها لم تغرق بعد خاصة إذا ما تم التجديد لبوش. ولذلك كله فإن الأميركيين لن يخرجوا غداً من العراق. وما التأكيدات حول بقاء القوّات الأميركية ما دامت الحاجة تدعو الى ذلك، سوى إعلان علني ببقائها طويلاً فالحاجة اليها تصنع ميدانياً وكل يوم وبتخطيط مسبق، وبحيث يأتي الطلب ببقائها دوماً من الحكومات العراقية المتعاقبة. فالنفوذ الضخم للسفير الأميركي ووجود مستشارين بالمئات في الوزارات والإدارات العراقية، سيربط وجود السياسيين وحتى الاداريين العراقيين بالوجود الأميركي، فيصبح بقاء هذا من بقاء الآخر. ونفوذ هذا الطرف من نفوذ الطرف الآخر!
وهنا، يبرز السؤال الكبير ماذا عن المقاومة والمقاومين العراقيين بعيداً من الارهاب والارهابيين؟
حتى بوش اعترف بأن من يعارض الاحتلال (الأميركي للعراق) ليس ارهابياً. وأيضاً كما وصف الأخضر الابراهيمي مبعوث الأمم المتحدة الى العراق، هذه المقاومة فقال: "من قاوم الاحتلال لم يخرج على المواطنة". فهل تكفي دعوة العلاوي للمقاومين بالدخول تحت شرعية هذه الحكومة الموقتة حتى تحل الأمور؟ كل التطورات تؤشر الى ان هذه المقاومة لن تتوقف لأن تركيبتها المؤلفة من اطياف سياسية ومذهبية تحول دون ذلك. حتى اجتثاث القرار باجتثاث حزب البعث، والعمل لاعادة بناء القوات المسلحة لن ينهيَ عمل هذه المقاومة وان كان يقيد قوتها وانتشارها وتمددها. الأمر الوحيد الذي ينهي شرعية هذه المقاومة، استعادة العراقيين لسيادتهم كاملة غير منقوصة، وأخذ حكومتهم الشرعية غير المقيدة. هذا دون تناسي عدم الغاء اي طرف من الأطراف سواء لأسباب عرقية او قومية او مذهبية من حقوقهم وواجباتهم في هذا العراق السيد المستقل.
ولعل اخطر ما يواجه العراق وحكومته الموقتة الحالية ونظامه في المستقبل، هو كيفية استعادة ثقة مواطني ما أصبح يعرف باسم "المثلث السني"، بنظامهم المركزي. وبالتالي عدم الانجرار الى الاستمرار في المواجهة او توسيعها بحجة تمدد الارهاب والارهابيين وانتشارهم في المنطقة. فالحرب بكل ما تحمله من قهر ودماء ودموع هي التي تستجلب هذه المجموعات بدعاوى الثأر والتحرير وليس النقيض.
كذلك فان الاكراد والشيعة، يكوّنون كل منهم على حدة، حلقة الوصل والقطع في العراق، فالاكراد وعلى لسان مسعود البرزاني "لن يعيشوا في عراق ليس فيدرالياً وديموقراطياً".
وتركيا وبصوت اردوغان تعارض "أي فيدرالية على أساس عرقي أو مذهبي". كما تعتبر تركيا "ان كركوك هي مخفر أمامي" لمنع قيام دولة كردية في العراق. وأي ضم لكركوك "لكردستان" يعني تغييراً حيوياً يستدعي تدخلاً تركيا مباشراً. وبهذا فإنه اذا كان الموقف التركي يصب في خانة وحدة الاراضي العراقية، فان ذلك يزيد من شعور الاكراد بالخسارة وربما دفعهم الى المغامرة. ولذلك كله فانه اذا كان على الحكومة العراقية المقبلة التوفيق بين هذه الوحدة المرغوبة والمطلوبة اقليمياً مثلما هي مطلب عراقي عربي من الشيعة والسنة من جهة ومطالب الاكراد بممارسة حقهم في حكم ذاتي في اطار حكم فيدرالي.
اما الشيعة، فان عودة السيد مقتدى الصدر الى تحت عباءة المرجعية، وقيام "البيت الشيعي بعد أن خسر أحمد الجلبي دنيا الأميركيين حتى إشعار آخر، يؤدي الى استمرار الهدوء في الجنوب والتعامل مع الأميركيين على أساس أنهم أغلبية تأخذ حقوقها من حضورها ودورها اليومي لا من البندقية. وهنا يجب دوماً مراقبة هذا "الهدوء والتعامل الى درجة التعاون" بحيث لا يفتح الباب لأي مواجهة شيعية ـ سنية بدعاوى المقاومة والتخوين في حين أن العملية لها لن تكون سوى النار التي تضرم بإرادة خارجية.
الولايات المتحدة قبلت إنهاء الاحتلال طلباً للمساندة الدولية، لكن هذه المساندة بقيت محدودة، وخصوصاً بعد رفض فرنسا وألمانيا أي دور للحلف الأطلسي في العراق. لكن هذا الإنهاء القانوني لن ينهي الاحتلال عملياً، فالقوات الأميركية ستبقى في قواعد منتشرة على مساحة العراق. وهنا يأتي الحديث عن كيف ستشرع الحكومة العراقية المقبلة هذا الوجود أمام العراقيين، وكيف سيتعامل العراقيون مع هذه القوات، والإجابة عن ذلك لن تكون سوى في مشروع وطني عراقي يجمع عليه العراقيون، يقود الى تحرير العراق واستعادة سيادته الكاملة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.