ديبلوماسية التانغو، ليست حديثة في العالم، بالعكس هي قديمة. معظم عمليات التفاوض الحساسة لصياغة حلول قابلة للتنفيذ جرت على وقع هذه الرقصة. من الطبيعي إذن أن تلقى ديبلوماسية التانغو الترحيب خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط الذي يعيش دائماً على وقع سياسة العصا والجزرة. لكن هذا الفرق بين السياستين، لا يعني مطلقاً، أنّ رقصة التانغو بلا شروط وقواعد، سوى إبراز البراعة في الرقص. بالعكس فإنّ لها شروطاً دقيقة وصعبة وأحياناً تفرض قبل دخول الحلبة، لأن في أساسها الانسجام والتفاهم حول كل خطوة، ووجود تقدير من كل راقص للراقص الآخر لأنّ الخسارة فيها مشتركة مثل الفوز فيها.
العزلتان والانتصار الناقص
دعوة جون كيري رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس لدمشق لرقصة التانغو، مهمّة جداً. ولا بد أنّ دمشق تشعر بالغبطة لهذه الدعوة. أخيراً، خرجت من زاوية الصالة التي وُضعت فيها مباشرة إلى حلبة الرقص المشترك. لكن كما يبدو الآن، فإنّ دمشق تريد تذكير الجميع، بأنها انتصرت بصمودها وممانعتها، ولذلك على الراقص أن يعرف جيداً مع مَنْ سيرقص. في هذا الموقف تبدو دمشق على نقيض ديبلوماسية حائك السجّاد الإيراني.
عزلة الإيراني أطول وأصعب بكثير من عزلة دمشق. تحمّلت طهران ثلاثين سنة من المقاطعة والحصار وحتى الحرب، وهي عندما أصبحت الدعوة قائمة من واشنطن، ردّت الكرة بأحسن منها، ولم تصرخ عالياً بأنها انتصرت. لا يمكن المشاركة في رقصة التانغو، بعد أن تثير الشريك. التوتر في هذه الديبلوماسية لا يمكن استثماره، بالعكس يؤدي إلى القيام بخطوة ناقصة تعطّل التواصلية الهادئة المنتجة.
دمشق غضبت من الكلام الأميركي حول ضرورة تغيير سلوكها فطالبت واشنطن بتغيير سياستها، مع أنها حققت الخطوة الأولى في هذا التغيير، خصوصاً وأنّ دعوتها للتانغو لم يقلها نائب عادي مثل الذي انتقدها، وإنما جون كيري الذي يُوصف بأنّه عرّاب باراك أوباما، فهو دعم ترشيحه داخل الحزب الديموقراطي حيث له وزن حقيقي، فقد سبق له وأنّ ترشّح للرئاسة، ولو لم تفرض توازنات المؤسّسة شروطها لما عيّن أوباما هيلاري كلينتون وزيرة للخارجية، خياره كان كيري.
جون كيري وجّه دعوته إلى دمشق كما تقتضي شروط الدخول إلى الحلبة. كل شيء يجب أن يكون واضحاً ومعلوماً. الجهل والتجاهل ممنوع. دمشق كما يبدو استغربت هذه الدعوة المشروطة، لأنها تتعامل وكأنها انتصرت، ودعوتها تجري تحت ضغوط هذا الانتصار، والطبيعي في هذه الحالة أن تكون الدعوة غير مشروطة.
إدارة باراك تريد الحوار مع دمشق لكنها لن تتسرّع كما فعل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. ليست الإدارة الأميركية في وارد التجربة فإذا نجحت تتابع ذلك وإذا فشلت تعود عن فشلها، وهي تفعل ذلك لأنه مهما حصل ستكون هي على رأس الطاولة وهي التي ستفتح الباب أمام المدعوّين. باريس سارعت وتسرّعت لتفرض لنفسها مقعداً رئيسياً على طاولة الشرق الأوسط. والآن تدرك أن الوضع مختلف. ليس بالضرورة أن يكون الحضور بحجم الآمال ولا حتى بنسبة المبادرات السريعة. لذلك كله ركّز كيري بأنّ بلاده وهي تتبع سياسة الحوار مع دمشق فإنها تفعل ذلك بدون أوهام أو سذاجة أو اعتقادات خاطئة. واشنطن دقّت الجرس لدمشق مبكراً بأن لا تبني على الدعوة أوهاماً بالانتصار، فهي مدعوّة للرقص مع راقص لديه من التجارب والمعرفة ما يكفي لكي لا يتم دفعه نحو أي قرار غير محسوب.
الجرس والشروط
هذا الجرس لم يبق يتيماً، فقد أرفقه كيري بجملة قواعد وشروط من الضروري جداً أخذها كثوابت لا يمكن اللعب عليها أبرزها يتعلق بلبنان ومستقبله، خصوصاً وأنّ دمشق ترغب بأن يكون لبنان ملفاً يجري التفاوض عليه فإذا كانت العودة العسكرية والأمنية مستحيلة على الأقل يمكن تشريع الرعاية السياسية التي يعرف اللبنانيون أكثر من غيرهم معنى ومضمون هذه الرعاية التي ترجمت بممارسات نظام الوصاية طوال سنوات. من هذه الثوابت التي لا تحتاج إلى تعليق ولا تحليل:
[ لن تكون أي تسوية من خلال حوارنا مع سوريا على حساب لبنان وسيادته والتزامنا حيال حكومته.
[ نحن مستمرون على التزامنا وبشكل حازم وصلب بسيادة لبنان واستقلاله والعملية الديموقراطية.
[ نحن نحترم الاستقلال السياسي للبنان.
[ نحن نرى أهمية كبرى للانتخابات التشريعية ويجب احترامها ونحن نحترم التعددية ونرى أن الانتخابات فرصة كي يجدّد الشعب اللبناني قراره بشأن مستقبله.
[ نريد أن تغيّر سوريا سلوكها. لن نقبل كلاماً، نريد أفعالاً.
يبدو جلياً أن واشنطن ستتابع مجرى الانتخابات التشريعية في لبنان. وهي ستراقب بدقة سلوك دمشق بكل ما يتعلق بحق اللبنانيين بتنفيذ خياراتهم خصوصاً وأنّها تعرف أيضاً ماذا تستطيع أن تفعل دمشق وما هي قادرة على فعله سواء لتعطيل الانتخابات أو لحرف مسار الانتخابات عكس ما يريده اللبنانيون والمجتمع الدولي.
إذا كانت المحافظة على سيادة لبنان واستقلاله وحق اللبنانيين بالممارسة الديموقراطية وجه العملة الأميركية الأول فإنّ المحكمة الدولية هي الوجه الآخر المكمّل للأولى. لا فصل بين أن تترك دمشق اللبنانيين في اختيار تركيبة نظامهم الديموقراطي، ونشاط المحكمة الدولية.
المحكمة الدولية لم تعد موضع سؤال وهي قامت حقاً قامت. ولذلك فإنّ المحكمة كما يقول كيري مستقلة عن أي نقاش مع سوريا أو أي موضوع متعلق مع إسرائيل. إنها مسألة تتعلق بالعدالة والحقيقة والمساءلة عن أي أعمال غير مقبولة بأي من معايير العالم. الولايات المتحدة الأميركية ملتزمة بالمحكمة بشكل واضح.
هذا التعهّد الأميركي العلني بالمحكمة الدولية ومحاكمتها للقتلة وإحقاق العدالة، يأخذا بُعداً إضافياً، مع كلام برنار كوشنير وزير خارجية فرنسا والمتحمّس مع رئيسه نيكولا ساركوزي للتطبيع مع دمشق. فقد حسم الوضع قائلاً: لا مساومة على المحكمة، نحن ندعم مهمّتها في محاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. أضاف كوشنير: لقد أبلغ الرئيس ساركوزي الرئيس بشار الأسد بأن لا مساومة على المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
ديبلوماسية التانغو على هذه القواعد والشروط، إيجابية لمستقبل لبنان واللبنانيين.. أن تعود سوريا إلى أحضان المجتمع الدولي وأن تكون قوية لا يضير لبنان واللبنانيين.
مجرد أن تقبل دمشق هذه الشروط، لترقص مع واشنطن، معنى ذلك أن لبنان سيكون بخير. الباقي يمكن الحوار والتفاهم حوله. وبالنهاية لا يمكن الخروج من الجغرافيا مهما طال الزمن لكن لا يمكن أن تفرض على الشريك الحب وأنت تضع المسدس في رأسه.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.