8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

العقوبات ضدّ إيران لتحويلها إلى نهج للتعامل مع التشدّد الإيراني

عادت باريس مسرعة للحاق بالقطار الأميركي. سنتان من الممانعة تكفيان. النتائج لم تتناسب مع الكلفة. أيضاً تعثر القطار الأوروبي، وتوقّف في محطة اليورو الضعيف، والخلاف الفرنسي ـ الألماني بعد تحالف طويل أنتج محركّين بسرعة مختلفة، وأجبر باريس ساركوزي على التطلع بعيداً باتجاه واشنطن.
الرئيس باراك أوباما لا يريد الحرب ضد إيران، لا مباشرة ولا بواسطة إسرائيل. باريس أصبحت موافقة ومتفهّمة لخيارات أوباما المحشور في حرب أفغانستان وفي مسار الخروج العسكري من العراق. أوباما يريد العقوبات المشدّدة على إيران، وساركوزي موافق على ذلك. الهدف ليس العقوبات للعقوبات، وإنما إفهام طهران أنّ هذا هو النهج الدولي الجديد للتعامل معها. متى أقرّت العقوبات في مجلس الأمن، بموافقة موسكو وبكين، مع امتناع تركيا والبرازيل كما هو معروف، يكون هذا النهج قد تحوّل إلى مسار مفتوح على التصعيد. دول الخمسة زائد واحد تصبح مستعدة لتقبل قرار أشد في مرحلة مقبلة إذا لم ينتج القرار الحالي تراجعاً إيرانياً متوافقاً أو منسجماً مع الموقف الدولي.
في مقابل هذا التشدّد باتجاه إيران، يوجد حالياً توجّه نحو الاعتدال باتجاه غزة، عملية رياح السما الإسرائيلية عصفت بالموقف الدولي. لم يعد بالإمكان لعب دور لم نرَ، لم نسمع، أمام ما يعانيه سكان غزة أولاً، وثانياً عمق هوّة التطرّف الذي وصل إليه المجتمع الإسرائيلي قبل حكومته الأكثر تطرفاً. لا يعود هذا إلى رياح إنسانية ساخنة هبّت فجأة على واشنطن وباريس للتوافق على نظرة جديدة تجاه غزة وسكانها المحاصرين. المشكلة أن العالم وخصوصاً منطقة الشرق الأوسط بعد دخول تركيا إلى واجهة المسرح بقوة من بوابة فلسطين، قرر التعامل بتشدّد مع إيران وبليونة واعتدال مع إسرائيل. باريس تتقبل حالياً المسار الأميركي، تحت صيغة كيف يمكن تحويل نتائج عملية رياح السما الدموية إلى رافعة للحل السياسي؟
باريس والعالم لاحظا كيف أنه بمجرّد صدور ردود فعل قوية ضد القرصنة الإسرائيلية، اندفع الإسرائيليون نحو طرح أسئلة لم تكن مطروحة أبداً رغم أنها بديهية جداً. في إسرائيل وعلى أعلى المستويات يجري البحث عن إجابات لسؤالين متلازمين: هل الحصار على غزة متلازم مع القانون الدولي؟ هل عملية رياح السما مطابقة للقانون الدولي؟. أيضاً فإنّ بنيامين نتنياهو يريد تطويق الإرادة الدولية ومن ضمنها واشنطن وباريس في تشكيل لجنة تحقيق دولية. حالياً يتجه نحو تشكيل هيئة تحقيق إسرائيلية. يبدو أنّ هذا الحل لن يلقى تجاوباً من باريس فكيف بواشنطن؟
هذا الموقف المتغير خصوصاً في باريس، يمكن ملامسة أسبابه في مواقف للرأي العام لم تكن لتصدر قبل أسابيع. مثالاً على ذلك أن شبكة اوتوبيا للتوزيع ولصالات السينما، سحب من برامجها عرض فيلم إسرائيلي بعنوان: خمس ساعات بعيداً عن باريس، الفيلم غير سياسي، مُنع فقط لأنه إسرائيلي. المنع أثار عاصفة من الأسئلة. لم يسبق أن مُنع فيلم بسبب جنسيته. هذه سابقة فرنسية، ما رفع منسوب القلق في باريس ومعظم العواصم الغربية من أن الاعتراض الثقافي تحوّل إلى مد اجتاح معه مجموعات موسيقية معروفة ألغت برامجها هذا الصيف في إسرائيل، إلى جانب مقاطعة فنية من وزن جين فوندا.
أبعد من ذلك، الاحتجاجات الكثيرة والعالية التي تتزايد في الرأي العام الفرنسي ضد حصار غزة، دفعت الداعية الإسرائيلي، الذي يصف نفسه بـالمفكر، هنري ليفي إلى كتابة مقال مع شريك له، هاجم فيه الحملة الإعلامية ضدّ إسرائيل لأنها مليئة بالمعلومات الكاذبة، مشيراً إلى أن غزة لا تعاني الحصار، الدليل أنها تصدر الورد وتستورد السمك. السخرية جاءت كبيرة. لو كان مسموحاً للغزاويين الصيد بحرية (جاء مقتل الصيادين الأربعة ليصبّ الزيت على النار) لماذا يضطر السكان إلى استيراد السمك من إسرائيل؟
لم يقتصر الأمر على هذا التساؤل. في مختلف وسائل الإعلام نشرت تحقيقات عن الحصار على غزة، إلى جانب صور تظهر الغزاويين وهم يعملون على تمرير عجل صغير في النفق، لأن إسرائيل تمنع استيراد الفلسطينيين للحوم. أكثر من ذلك أكدت الأرقام المنشورة أن:
[ 75 في المئة من سكان غزة الفلسطينيين أي مليون ومئة ألف يعانون من غياب الأمن الغذائي.
[ 70 في المئة من اليد العاملة الفلسطينية في غزة عاطلة عن العمل وهم لا يحصلون على أكثر من 250 دولاراً في السنة لكل عائلة مشكّلة من تسعة أفراد.
[ إن الكهرباء لا تصل إلى السكان أكثر من أربع ساعات في اليوم وأحياناً نادرة ثماني ساعات في عز حر الصيف الذي بدأ.
[ إن 2662 شاحنة دخلت غزة عام 2009 في حين دخل عام 2007 نحو 11392 شاحنة.
[ إن لائحة الممنوعات الإسرائيلية للمواد التي تدخل إلى غزة تضم إلى جانب الاسمنت والحديد (علماً أن 3450 منزلاً تهدموا و2879 أصيبوا بأضرار خلال حرب الرصاص المصبوب) الشوكولا والبسكويت (معظمها للأطفال) والصويا واللحوم على أنواعها والأقمشة، أي الغذاء والملبس وغير ذلك.
لم يعد مقبولاً الحصار على غزة. اتهام الغرب وتحديداً واشنطن وباريس بهذه الكارثة الإنسانية يزداد قوّة. طبعاً ضمن هذه الاتهامات تتوجّه الأصابع إلى حماس. الجميع يعتبرها شريكاً أساسياً في انهيار الوضع. سياستها التي أنتجت الانفصال عن الضفة الغربية والسلطة الوطنية الفلسطينية زرعت الشكوك والقلق. يوجد تفهّم غربي لمخاوف إسرائيل الأمنية، لكن ذلك لا يوجب هذا التطرّف، وتحويل غزة إلى سجن مفتوح على السما. لكل شيء حدود.
الموقف التركي المتصلب أنتج اضطرار إسرائيل للإفراج الفوري عن الناشطين المعتقلين من أسطول السلام، والأزمة لم تنته. في باريس يريدون الإسراع في الحل ورفع الحصار عن غزة، حتى لا يتحوّل الوضع إلى ساحة مزايدات تخلّ بالوضع وتفجّره. دخول إيران ولو إعلامياً على خيار أسطول الحرية يقلق باريس، ماذا لو فعلها أحمدي نجاد المحشور حالياً بالموقف التركي وإيجابياته خصوصاً في العالم العربي وتحديداً الفلسطينيين؟
لكن أكثر ما يدفع باريس التي تربطها بتل أبيب علاقات حارة حتى الآن بسبب عمق الصداقة التي تربط الرئيس نيكولا ساركوزي ببنيامين نتنياهو، أن هذه العلاقات لم تنتج ولو تخفيفاً لمواقف الحكومة الإسرائيلية، في حين أن بعض الأسئلة المشروعة حتى الآن التي صدرت في الغرب ومنها واشنطن، جعلت نتنياهو يفكر في كيفية الالتفاف على الأجواء المضادّة له. في باريس يقولون اليوم المشكلة ليست في حكومة نتنياهو ليبرمان المتطرفة فقط، المشكلة في انزلاق المجتمع الإسرائيلي أكثر فأكثر نحو التطرّف. لم يعد التطرّف سياسة حكومية فقط، أصبح نهجاً شعبياً. السبب في هذا الانزلاق، يعود إلى أن هذا المجتمع لم يشعر بأي ردّة فعل دولية على ذلك. أصبح التطرّف وما ينتجه مقبولاً أو على الأقل يتقبله المجتمع الدولي، فلماذا التحوّل عنه؟ مجرّد صدور ردّة فعل دولية عادية حتى الآن دفعت هذا المجتمع خصوصاً في دوائره السياسية لطرح الأسئلة حول نهاية هذا المطاف.
ربما المزيد من الضغوط الدولية تكسر التطرّف في إسرائيل وتدفع الحكومة الإسرائيلية نحو البحث عن مخارج لها. قد يكون الحل في تغيير حكومي. أكثر من ذلك ربما في التوجّه نحو انتخابات تشريعية مبكرة، خصوصاً إذا ما انشئت هيئة تحقيق دولية أدانت عملية رياح السما تخطيطاً وتنفيذاً وطبعاً النتائج.
البداية من الأسئلة المشروعة، بانتظار صياغة خارطة الطريق تخرج منطقة الشرق الأوسط ومعها العالم من الطريق المسدود المليء بالألغام.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00