لم يكن السيّد محمد حسين فضل الله، رجلاً واحداً، حتى يصغر الحزن عليه يوماً بعد يوم. كان السيّد عدّة رجال في رجل واحد. لذلك كلما انتهى الحزن والحديث والذكرى عن واحد منهم، حضر الحديث والحزن عن الآخر، الذي لا يقل أهمية وقيمة وأثراً على الذي سبقه. السيّد محمد حسين فضل الله، المرجع، العالِم، الفقيه، المجتهد، المتنوّر، الإنساني، المعتدل والعادل، المقاوِم والثوري، الحرّ والمستقل، اللبناني، العربي، الإسلامي الوحدوي، الشاعر، الخطيب، المؤسساتي. كان كل هؤلاء وأكثر.
اختار السيّد محمد حسين فضل الله القادم من النجف، حي النبعة الفقير مادياً الغني بأهله وشبابه. نجح بسرعة، لأنه كان صادقاً في حياته، لم يفصل بين مساره اليومي وتفاصيل دعوته. جاء قادماً من حزب الدعوة في العراق وهو أحد مؤسسيه، وعمل على نشره. حتى إذا جاء العام 1981 وحلّ الحزب في لبنان، أصبح المرشد الروحي لـحزب الله المؤسس حديثاً. أهمية السيّد فضل الله، انه كان مقاوماً منذ البداية، لكنه لم يقبل أن يتحوّل التزامه المقاومة إلى قيود تلزمه بما لا يقبل به. المقاومة والالتزام بها مساحة مفتوحة على مصراعيها، بينما الالتزام بالحزب مساحة مقفلة ومقيدة. لم يستطع المجتهد في شخص السيّد القبول بالقيود الحزبية، وخصوصاً أنّ بعض هذه القيود كانت لها امتدادات خارجية بعيداً إلى إيران. خرج من الحزب، لكنه تعمّق وتعملق بالمقاومة.
تحمّل السيّد كل الاتهامات الخارجية له. في أواخر التسعينات، التقيته. كان الحوار حول المقاومة والعنف وعلاقته بالإسلام. أقنعني بموقفه خصوصاً بعدما فصل بينهما أي بين المقاومة ضدّ المحتل كواجب وطني وشرعي، والعنف الذي جذوره الكراهية وسلاحه ظلامي ونهايته الانتحار الذاتي والفكري قبل الجسدي. حملت موقفه إلى باريس، التي مثل كل العواصم الغربية آنذاك ما زالت تعتبره المرشد إلى العنف. عملت على إقناع احدى أكبر دور النشر الفرنسية بإصدار كتاب حوار مع السيّد حول الإسلام والعنف قبلت الدار. ثم تراجعت بعد ضغوط لم تتوضح. لم يغضب السيّد فضل الله. قال لي مواسياً: الوقت سيؤكد لهم أنهم على خطأ، أما أنا فسأتابع ما بدأته، سأبقى كما أنا، مع المقاومة ضد العنف.
في بداية الثورة الإسلامية في إيران، التقيته في طهران. كان فرحاً بالثورة وسقوط نظام الشاه، وقيام جمهورية إسلامية بزعامة الإمام الخميني. ترك كل تحفّظاته خلفه ودعم إيران الثورة. لكن السيّد رفض أن يقايض موقفه بأي موقع. وهو ابن النجف أصرّ على التعدّدية، ورفض حصر المرجعية بالولي الفقيه. كان يقول دوماً: ليست هناك مركزية واحدة للفقيه في ولايته على العالم بل يمكن أن يكون هناك أكثر من ولي فقيه بحسب هذا البلد أو ذاك. لأنّ السيّد كان مع الاجتهاد ويجتهد رفض الولاية المطلقة التي تمنع الاجتهاد وتلغي التعدّدية. لكن ذلك لم يدفعْه يوماً للوقوف ضدّ إيران. خياره كان دوماً واضحاً بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، خياره كان دوماً مع إيران. هذا الدعم لم يمنعه يوماً من تلمّس مواطن الضعف في الجسد الإيراني الطري. حتى أيامه الأخيرة، وقد التقيت معه في مطلع أيار الماضي، كان يبدي خوفه ومخاوفه على إيران من الداخل، وأن يكون تأكّلها من قلب هذا الداخل وخصوصاً أنه توجد أكثر من نافذة تطل عبرها القوى المضادّة.
وقوفه مع إيران، لم يمنعه من مواصلة الانقطاع عن زيارتها. تلقى دعوات رسمية كثيرة، لكنه لم يجد حاجة لتلبيتها منذ أكثر من خمس عشرة سنة. بنى كل مؤسساته ومنها تسع رعائية ترعى نحو 3800 يتيم كل سنة و16 مدرسة، وسبعة معاهد مهنية، ومؤسسة لذوي الاحتياجات الخاصة، وعدد من المراكز الصحية والمؤسسات الثقافية وأكثر من 40 مسجداً. لم يأخذ قرشاً واحداً من إيران، كان يردّد: مصدر قوتي أني لا أطلب من أحد شيئاً حتى من الإيرانيين، ليس لإيران أي علاقة بمؤسساتي ولو بنسبة واحد في المئة، لم أحصل منهم على قرش واحد. كان يعرف ان المال يقيّد سواء كان حلالاً أو حراماً، لا مال بلا قيود. لكل شيء حقوق وواجبات.
تعرّض السيّد محمد حسين فضل الله لمحاولات كثيرة للنيل من مرجعيته ودوره في الدائرة الإسلامية الواسعة. لكن السيّد لم يتراجع عن رؤيته الوحدوية للإسلام والمسلمين. كان يرى أنّ في وحدة المسلمين خشبة الخلاص لذلك أصدر فتاوى عديدة ضدّ روايات كانت تزرع الأحقاد وتسمّم العلاقات بين السنّة والشيعة. في السنوات الأخيرة، بدا السيّد قلقاً من تداعيات وصول سلفيّة شيعية خصوصاً وأنها وصلت إلينا عبر إيران وإلى مستوى من الغلو. كان السيّد دوماً مع قيام مجتمع مؤمن ومتديّن. رافضاً لكل الأجواء التي تغرق هذا المجتمع المطلوب في سلفية طالبانية. أكثر ما كان يثيره التمييز بين الرجل والمرأة، ومنح الرجل حقوقاً محرّمة على النساء. في لقائي الأخير سألته عن فتوى نُشرت له في كتاب صادر حول حق الرجل في ضرب المرأة التي لا تقوم بواجباتها معه، أجابني وهو يبتسم: أيعقل أن أقول هذا وأنا الذي أفتيت بحق المرأة في الدفاع عن نفسها أمام الرجل الذي يستعمل العنف معها؟ هذا مرفوض جملة وتفصيلاً.
هذا الرفض للطالبانية الزاحفة على المجتمعين الشيعي والسنّي معاً. كان حقيقياً. لا شيء يبرّر هذا الغرق في الظلام والظلامية، هذه الطالبانية الزاحفة هي التي تفرض رهبنة على المجتمع مع العلم ان الإسلام يرفض الرهبنة. إلغاء الفرح من المجتمعات الإسلامية، لا يخدم قضية خصوصاً بأهمية قضية المقاومة.
لم تكن أيضاً دعوة السيّد فضل الله لوحدة الإسلام موقفاً نظرياً فقط، كان يمارس ذلك يومياً، أمام العراق بدا واضحاً في موقفه، قال أيضاً: يجب إشراك السنّة في السلطة وإلا لن يستقيم الوضع. لم يكن السيّد خائفاً من الحرب الاهلية في العراق، لكنه بدا قلقاً من إغراءات السلطة للعزل وانعكاس ذلك على وحدة العراق.
هذا غيض من فيض في الكلام عن السيّد محمد حسين فضل الله. لبنان واللبنانيون قبل الشيعة في العالم يخسرون في غيابه كثيراً، خصوصاً وأنّ لا أحد يمكنه أن يملأ ولو جزءاً من الفراغ الذي تركه.
إنه الفراغ الكبير...
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.