طبيعي جداً هذا الانقسام الحاد والعميق في موقف العراقيين من محاكمة الرئيس المخلوع صدام حسين وأعوانه، وأن يقول عراقيون أمام شاشات التلفزيون ان صدام حسين هو رئيس العراق وقائده وأن من يحاكمونه يجب أن يحاكموا، وأن يطالب آخرون خلافاً لذلك بسحل صدام حسين على الطريقة العراقية، وفي كل هذا من الصدق والشفافية، ما يبشر أيضاً بتحول عميق جداً في المجتمع العراقي، وهو القول عالياً ما لم يكن يجرؤ العراقيون على قوله حتى أمام زوجاتهم أو أزواجهم فكيف بالغرباء!
والعراقيون المنقسمون حالياً أمام هذه المحاكمة هم في مواقفهم الامتداد الطبيعي أيضاً لمواقفهم من صدام حسين منذ تسلمه السلطة، فالكثير من العراقيين رأوا فيه بصدق "قائداً" استثنائياً يعمل على أخذ العراق الموقع الذي يستحقه جغرافياً وسياسياً وتاريخياً. والكثير أيضاً من العراقيين، وخصوصاً بعد غزو الكويت رأوا في صدام حسين ديكتاتوراً لا يتورع عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية كما حدث في الجنوب العراقي بعد انتفاضة 1991 وقبلها ضد الأكراد وفي حلبجة، وشخصية مسكونة بعقد المجتمع والتاريخ، ولذلك لم يتورع عن رمي بغداد التي كان يمكن لها ان تكون بما ملكت من ثروتي الماء والنفط عاصمة للمنطقة في سلسلة من الحروب المدمرة والقاتلة.
وبعيداً عن هذه المواقف المتباعدة والمتصادمة عراقياً، فإن هذه المحاكمة يجب أن تكون مراجعة تاريخية، تضيء زوايا تركت عمداً في الظلام، وتقدم دروساً دقيقة مستخلصة من ثلاثة عقود من السلطة أدت في نتائجها الكارثية وخصوصاً الاحتلال الأميركي، حتى يتعلم القائمون ويتعظ القادمون إلى حكم هذه الأمة.
لكن هذه المحاكمة لن توفر شيئاً من هذا الطموح العربي، وإنما ستكون "الشجرة التي تخفي الغابة"، ذلك ان هذه المحاكمة التي تجري حسب سيناريو أميركي معه بدقة وعناية، تهدف عراقياً إلى إشغال الشارع العراقي في هذه المرحلة الزمنية الحساسة عن الاحتلال الأميركي المقنّع بتسليم السيادة للحكومة الموقتة. ولعل توقيت تسليم صدام حسين للعراقيين قانونياً وليس فعلياً، بعد أقل من 24 ساعة على مغادرة بول بريمر العراق، المؤشر الأبرز لهذا السيناريو الأميركي. فالمطلوب عراقياً، إشغال العراقيين بهذه المحاكمة، بعيداً عن المشكلة الأساسية وهي استمرار بقاء 130 ألف جندي أميركي على الأرض العراقية، وانعدام الأمن وتضخم البطالة، وارتفاع درجات الخوف والقلق من سقوط وحدة الشعب العراقي في أفخاخ القوميات المتصادمة والمذهبية ـ السلطوية.
وهذه المحاكمة تلبي أساساً طموحاً حقيقياً لدى إدارة الرئيس جورج بوش والعاملين على تجديد ولايته إلى صرف اهتمامات الأميركي العادي عبر تقديم صورة أخرى للأميركيين الذين أصبح أكثر من نصفهم يرون في هذه الحرب ضد العراق خطأ وسياسة خسائرها أكبر من مردودها. ذلك ان مشهد صدام حسين في قفص الاتهام يرضي مشاعر الأميركي العادي، حول الحرية والعدالة والأمن، وتقدم له صورة لانتصار في حرب ضد عدو يقدم كعدو للأمن الأميركي. وكلما ارتفع رصيد هذا الرضى لدى الأميركي العادي، تدنت نسبة المعارضين للحرب نقطة في عالم الانتخابات الرئاسية، هذه النقطة التي قد تكون القضاء والقدر في النتائج النهائية.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.