ديبلوماسياً، من الطبيعي جداً ان ينفي ميشال بارنييه وزير الخارجية الفرنسي وجود أي منافسة أو مزاحمة مع الولايات المتحدة الأميركية حول الجزائر.
واقعياً، هذه المنافسة والمزاحمة قائمة على قدم وساق. والهجمة الديبلوماسية والسياسية التي تشهدها الجزائر من جانب فرنسا بمشاركة من اسبانيا وفي اطار أوروبي شامل، تؤكد ذلك. وتكفي قراءة أجندة الزيارات واللقاءات المتبادلة بين باريس والجزائر، ودخول مدريد على خط هذه الأجندة للتأكد من ذلك.
ففي الوقت الذي غادر فيه ميشال بارنييه مطار الجزائر، كان رئيس الوزراء الاسباني جوزيه لويس زاباتيرو يحط على رأس وفد ضخم يضم وزير الخارجية ميغيل انخيل موراتينوس إضافة إلى عدد آخر من الوزراء وعشرات من رؤساء الشركات ورجال الأعمال. وقبل أن ينتهي هذا الشهر، تكون وزير الدفاع ميشال اليو ماري قد زارت "البلاد" (16 و18 تموز) وبعدها السوبر وزير نيكولا ساركوزي (27 تموز) ولاحقاً وزير الداخلية دومنيك دو فيلبان وبعده وزير التربية. وقبل أن تنتهي هذه السنة المجيدة في تاريخ العلاقات الفرنسية ـ الجزائرية يكون وزراء الطاقة والمناجم، ومصادر المياه، والأشغال العامة والاسكان والصحة والعدل الجزائريون قد ردوا الزيارات بأحسن منها. ولا يمكن وضع تاريخ محدد لزيارة سريعة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى باريس لملاقاة الرئيس جاك شيراك والتشاور معه فقد أصبحت باريس، "واسطة العقد" في الرحلات الخارجية للرئيس الجزائري.
وطبعاً، يمكن أن يقول المسؤولون الجزائريون والفرنسيون ان زيارة الدولة للرئيس بوتفليقة لفرنسا عام 2000 قد كسرت الحاجز النفسي، وفتحت الأبواب أمام اللقاءات الدورية، فما يربط فرنسا والجزائر، قد لا يربط فرنسا بدول شريكة لها في الاتحاد الأوروبي. فالبلدان يرتبطان بتاريخ مشترك مليء بالحلو والمر وبجغرافيا لصيقة تجعل أمن الواحد من أمن الآخر، إضافة إلى علاقات ثقافية واقتصادية واجتماعية (جالية جزائرية تصل إلى المليون في فرنسا). وإلى جانب كل ذلك، فإن مطلع العام 2005 سيشهد في اطار ترسيخ وتثبيت هذه العلاقات الخاصة والحارة جداً كما وصفها ميشال بارنييه توقيع "معاهدة صداقة" بين البلدين.
ويؤكد المسؤولون الفرنسيون والجزائريون بلسان مشترك ان النجاح الكبير الذي تشهده هذه العلاقات المشتركة إنما يعود إلى "إخراجها من جحيم العواطف التاريخية وإخضاعها لمقتضيات الحاضر". والترجمة المباشرة لهذه العملية، ان الشراكة بين الطرفين الفرنسي والجزائري أصبحت "شراكة براغماتية" على الصعيد الاقتصادي، حيث تجاوز الطرفان الخلافات السياسية وجرى فصلها عن التعاون الاقتصادي. وفي محاولة لتأكيد ذلك قال الطرفان خلال المؤتمر الصحافي المشترك بين وزير الخارجية عبد العزيز بلخادم وميشال بارنييه، بدا أن حوارهما حول مشكلة الصحراء كان "حوار طرشان" حقيقي، والخلافات بينهما بدت عميقة، ولا مجال لحصول أي اتفاق بينهما. ومع ذلك فإن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة استقبل بارنييه أربع ساعات ووجه رسالة تهنئة إلى الرئيس شيراك بمناسبة 14 تموز تنبض بالحرارة والود. ولو حصل هذا الخلاف العلني سابقاً، لكانت الصحف قد امتلأت بالتذكير بـ"التاريخ الأسود" لهذا الطرف أو ذاك طوال العقود الماضية. أكثر من ذلك ان وزير المجاهدين الجزائريين رفض مطالبة البعض بضرورة اعتراف فرنسا "بجرائمها" أثناء حرب الجزائر لأن ذلك يصيب العلاقات بمقتل، ثم ان فرنسا تعرف ماذا فعلت فلماذا المطالبة بذلك!.
لا شك في ان ارادة مشتركة من الرئيسين جاك شيراك وعبد العزيز بوتفليقة لإعادة الحياة بقوة إلى العلاقات بين بلديهما على أن تكون ترجمة ذلك انجاز المزيد من الاتفاقات والاستثمارات والتعاون الاقتصادي وليس مجرد بيانات مليئة بالكلمات الحارة، هي التي قرّبتهما من توقيع معاهدة الصداقة. كما ان الإرادة الأوروبية وخاصة الفرنسية ـ الاسبانية، بضرورة العمل من أجل السلام والأمن في المحيط الأورو ـ متوسطي، قد أعطتها الزخم والقوة، خاصة وأن الطرفان الأوروبي والمغاربي يستعدان للاحتفال بالذكرى العشرية لعملية لبرشلونة.
لكن كل ذلك لا يكفي لتفسير هذا الزخم وهذه السرعة في تحقيق انجازات كان يلزمها العقود وبدلاً من الأشهر، والواقع أن فرنسا ومعها الاتحاد الأوروبي وخاصة اسبانيا، شعرت بأن "تحفظاتها الطبيعية إزاء مسار أحداث العشرية السوداء في الجزائر وعدم رغبتها في الانخراط ولو من الباب الخلفي عبر تقديم السلاح والتعاون الأمني مع النظام الجزائري، وقد استغلته الولايات المتحدة الأميركية، فعززت علاقاتها العسكرية مع الجزائر بحيث ان قطار الزيارات المتبادلة بين باريس والجزائر يسير في وقت واحد مع مناورات عسكرية بحرية أميركية على الشواطئ الجزائرية. وأثمر هذه التعاون مع الجزائر في أعقاب هجمات 11 أيلول في تثبيت الموقع الأميركي في قطاع النفط الغني، وقد اختصرت الصحيفة الجزائرية "لوكوتيديان دوران" هذا كله بقولها ان "الفرنسيين يتحركون بسرعة، والأميركيون متقدمون كثيراً والبنتاغون متفوق كثيراً على وزارة الدفاع الفرنسية".
هذا التنافس والتزاحم الفرنسي ـ الأوروبي مع الولايات المتحدة الأميركية على الجزائر يفيد الجزائريين. ومن الواضح انه عبر براغماتية سياسية يتقن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة صياغتها وتنفيذها، تم استثمار كل ذلك لمصلحة الجزائر. ومما ساهم في تعزيز هذا المسار الجزائري ان فرنسا التي اصبحت المستثمر الدولي الأول في الجزائر بمبلغ يصل إلى مليار أورو، وإسبانيا التي تريد ضمان احتياجاتها من الغاز الجزائري والتي تزيد على 60% من كامل استهلاكها، مستعدان لرفع حجم استثماراتها الاقتصادية في قطاعات أخرى.
هذا الطموح المشترك بين فرنسا واسبانيا من جهة والجزائر من جهة أخرى، يتم حسب الحسابات الجزائرية بمعزل عن التطوير الموازي للعلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، واذا كانت الجزائر تعمل على انجاح مسار هذا التطوير، فإن واشنطن تعمل بقوة على تعزيز حضورها العسكري عبر تكثيف تعاونها مع الجيش الجزائري سواء في مجال المعدات والأسلحة أو في تدريب وتطوير القيادات العسكرية. وفي الوقت نفسه تتمسك أميركا بقوة بإنجازاتها في قطاع النفط الجزائري الذي يقع في صلب استراتيجيتها النفطية الطويلة الأمد، لأن ذلك يشكل لها ربحاً مضموناً تصاعدياً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.