لم يسبق لمسؤول سياسي أجنبي أن تدخل في الشؤون الداخلية الفرنسية كما فعل أرييل شارون رئيس الوزراء الاسرائيلي، وهو بدعوته اليهود الفرنسيين إلى الانتقال فوراً إلى إسرائيل بحجة "تصاعد وتيرة معاداة السامية في فرنسا"، من جهة، والتحذير من أن وجود عشرة بالمائة من سكان فرنسا من المسلمين "يهيّئ لشكل جديد من معاداة العنصرية" من جهة أخرى، غرس "السكين" في الجسد الفرنسي. فهو عمد إلى اقتطاع جالية كاملة من انتمائها الوطني عندما حوّل مواطنين فرنسيين يهوداً إلى ما يشبه "مهاجرين" ما زالت حقائبهم تنتظر موعداً آخر للمغادرة. والأخطر من ذلك ان أرييل شارون وقف على يمين اليمين الفرنسي، وصبّ الزيت على نار العنصرية التي هي السبب الرئيسي لمعاداة السامية، فدعا إلى "حرب" شاملة ضد الجالية المسلمة في فرنسا والمشكلة من عرب وأفارقة وأتراك وآسيويين!.
وأمام هذه الخطوة التي تكاد تكون "دعوة لإعلان حرب أهلية بين الجاليات في فرنسا"، فإن كل الكلام الديبلوماسي الذي استعان به رعنان غيسين الناطق باسم شارون في محاولة التخفيف من وقع هذه الدعوة لن يفيد كثيراً، ولذلك فإن فرنسا لا تستطيع السكوت على ذلك. وردة الفعل السريعة لوزارة الخارجية الفرنسية ليست سوى بداية الغيث، فقد أعلن المتحدث باسم الوزارة في بيان سريع صدر على الرغم من اليوم الأخير من عطلة 14 تموز "اتصلنا على الفور بالسلطات الاسرائيلية لنطالبها بتوضيحات لهذه التصريحات غير المقبولة".
ومن الواضح ان شارون لم يقل ما قاله عن انفعال، وإنما عن سابق تعمد وتصميم، فقد اختار الذكرى 62 للحملة ضد يهود باريس، والتي كان يشارك فيها معظم الوزراء الفرنسيين ليصعّد أكثر من مجرد الكلام عن وجود معاداة للسامية في فرنسا أو كما قال مرة ان درجة معاداة السامية في فرنسا هي الأعلى بين دول العالم. وهذا "الموقف الشاروني"، يأتي أيضاً حلقة في مسلسل طويل من الحملات الإعلامية والسياسية حول وضع اليهود في فرنسا، علماً انه سبق للرئيس جورج بوش ان دعا باريس إلى محاربة معاداة السامية. ولا شك في ان كل ذلك يهدف إلى وضع فرنسا في خانة الدفاع عن نفسها وإرباكها سياسياً خاصة في منطقة الشرق الأوسط بحيث تخرج من لعبة البحث عن حل سياسي يقود إلى السلام لتخلي الساحة نهائياً للموقف الأميركي الملتزم المواقف الشارونية ابتداء من إلغاء شرعية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وصولاً إلى رفض قرار محكمة العدل الدولية حول "جدار الفصل"، مروراً بإدانة عمليات الاغتيال.
وإلى جانب ذلك، فإن كلام رعنان غيسين الديبلوماسي جداً مفاده ان كلام شارون حول هجرة يهود فرنسا يشمل كل يهود العالم، بما في ذلك المقيمون في الولايات المتحدة الأميركية، يؤشر إلى معاناة إسرائيل من ارتفاع نسبة الهجرة المغادرة منها من جهة، وحاجتها إلى هجرة جديدة تضمن لها "كادرات" تساعدها وتضخ الدماء في عروقها في موازاة الهجرة القادمة من إثيوبيا والدول الأخرى التي هي بحاجة لكل شيء ابتداء من تعلم القراءة والكتابة وصولا إلى الانخراط في المجتمع المدني الاسرائيلي.
والمعروف ان هجرة اليهود الفرنسيين تراجعت خلال العام 2003، رغم ان اعلى نسبة وصلت إليها عام 2002 كانت ألفي فرنسي من هذه الجالية، ووراء هذا الانخفاض كما عبر العديد من اعضاء الجالية، تدهور الأمن في إسرائيل وتراجع الأمل بالسلام!.
ولا شك في ان مثل هذه الدعوات سواء جاءت من شارون أو سابقاً من سياسيين ومسؤولين إسرائيليين، إنما تستند إلى واقع فرنسي تزايدت فيه الأعمال المعادية للسامية التي وصلت في الاشهر الستة المنصرمة من هذا العام إلى 132 حادثة مقابل 127 حادثة طوال العام الماضي، وكذلك وقوع 95 حادثة عنصرية في الفترة نفسها مقابل 92 للعام 2003، ما يعني ان فرنسا تعيش على وقع أحداث يومية بعضها حقيقي وبعضها الآخر مفتعل لرفع درجة الخوف ووتيرة القلق في المجتمع الفرنسي، وفتح الباب امام دعوات الهجرة أو التحريض على حرب مفتوحة ضد الجالية المسلمة، كما يفعل اليمين المتطرف الفرنسي، وأرييل شارون. وقد شهد العام الماضي حادثة تؤكد عدم براءة مرتكبي الحوادث المعادية للسامية، فقد اكتشفت الشرطة بعد تحقيقات أجرتها ان الحاخام الذي ادعى أن عربياً طعنه بالسكين قد طعن نفسه بنفسه، وقد أثارت الحادثة الطبقة السياسية الفرنسية كلها، إذ سارع معظم رؤساء الوزارات السابقين والوزراء والشخصيات إلى حضور صلاة دينية في الكنيس في باريس وهم يعتمرون القلنسوة اليهودية، وعندما انكشفت الحقيقة تم دفنها وسط صمت إعلامي واسع. وجاءت حادثة ماري ليوني قبل أيام لتؤكد كيف ان فرنسا بكل وسائلها الإعلامية ومسؤوليها الموزعين على مختلف الأطياف السياسية، تسقط في "هيستريا جماعية" لمجرد الادعاء بوقوع اعتداء معاد للسامية، فقد عمد الرئيس جاك شيراك إلى إدانة "الجريمة البشعة"، كما قامت وزيرة حقوق الضحايا نيكول غيدج بزيارة "الضحية" التي تحولت بعد اقل من 48 ساعة إلى متهمة تنتظر حكم القضاء عليها في 26 الجاري. وقد اضطرت ماري ليوني إلى تقديم اعتذار علني أعربت فيه عن الأسف الشديد لكل ما جرى وقالت: "أقدم اعتذاري إلى رئيس الجمهورية، إلى نيكول غيدج وأولئك الذين ساندوا كذبتي".
وتابعت وهي تقرأ نصاً من بضعة أسطر امام عدسة كاميرا تصورها من الخلف "انني آسفة جدا لهذا العمل، وأعتذر من كل الذين خدعتهم وجرحتهم".
واعترفت الام الشابة التي وصفت بأنها تعاني ضعفاً في التوازن النفسي بعد احتجازها رهن التحقيق يومين، بأنها اختلقت كلياً سيناريو الاعتداء الذي بلغت عنه والذي أثار موجة استهجان عامة شملت الرئيس الفرنسي جاك شيراك.
الأمين العام للجمعية الحاخامية الفرنسية حاييم كورسيا سارع للقول ان مسألة الرحيل غير مطروحة وإن "عبارة "يهود فرنسا" لا تعني شيئاً، ففي فرنسا مواطنون فرنسيون يهود وآخرون يعتنقون ديانات أخرى ونحن جزء من روح هذه الأمة"، وهذه المبادرة السريعة، إنما هي لتطويق ردة الفعل الرسمية من جهة وتطويق مشاعر العداء الضمنية لدى الفرنسيين والتي يخشون اعلانها بسبب الخوف من اتهامهم بمعاداة السامية، وكرة الثلج ما زالت في قمة المنحدر، فالخلافات الاسرائيلية ـ الفرنسية تبدأ في فلسطين وتمرّ في العراق وحوض البحر المتوسط وتنتهي في الإثارة الدائمة لمعاداة السامية!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.