8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

"جمهورية" بوتفليقة

"جمهورية" عبد العزيز بوتفليقة بدأت، لكنها لم تكتمل. فقد ربح بوتفليقة "معركة" لكنه لم يربح بعد "الحرب"، وأمامه معارك كثيرة قبل أن تكتمل مسيرة "عودة العسكر" الى الثكن، على طريق تسليم السلطة للمدنيين. فالعسكر لا يأمنون إلا لأنفسهم، والمدنيون يعيشون دوماً في دائرة الخوف من الدبابات القادمة لخلعهم. وبوتفليقة يعرف أكثر من غيره، طبيعة هذه العقدة، فهو قاد الدبابات الى جانب "والده الروحي" الكولونيل هواري بومدين لإطاحة الرئيس أحمد بن بلة. وهو أيضاً يعلم جيداً كيف أطاحه الجنرالات ومنعوه من خلافة بومدين، مفضلين عليه الكولونيل الشاذلي بن جديد!.
الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، يعرف جيداً وهو يخوض هذه "الحرب" انه لا يمكنه العمل بسرعة ولا الذهاب بعيداً في المواجهة، ولذا، يترك للوقت أن يأخذ مداه. فهو انتظر عشرين عاماً في المنفى الاختياري بعد ابعاده عن خلافة بومدين، حتى يعود ويعمل على أكل صحن الثأر بارداً! وترك لوصول اليو ماري وزيرة الدفاع الفرنسية الى الجزائر توقيت اخراج ما كان غارقاً تحت الجسر الممتد من "طفارة" مقر وزارة الدفاع ورئاسة الأركان و"المرادية" قصر الرئاسة، الى السطح ليكون غياب الفريق العماري، اعلاناً كافياً بحد ذاته.
أما أسرار وتفاصيل هذه المعركة الطويلة، فتعود الى اللحظة التي قررت فيها المؤسسة العسكرية صانعة الرؤساء، أن يكون الرئيس الذي يخلف الجنرال اليمين زروال مدنياً لا عسكرياً، فكان عبد العزيز بوتفليقة الرئيس المدني القادم من مجموعة "وجدة" العسكرية، التي كان زعيمها التاريخي هواري بومدين، وكان السبب الذي دفع المؤسسة العسكرية الى حمل مدني الى الرئاسة إدراك "المجموعة الاستئصالية" من العسكر والتي ضمت فيمن ضمت الجنرالات خالد نزار ومحمد التواني ومحمد العماري، وتوفيق مدين (مدير المخابرات العسكرية)، أنه حان الوقت لكي يتولى مدنيّ حل الأزمة الأمنية والسياسية، لئلا يظهر الجيش بعد عشر سنوات من المواجهات بدور المهزوم، وبذلك يأتي التنازل من مدنيّ لا من عسكريّ.
عبد العزيز بوتفليقة لم يكن من القيادات التاريخية لكنه جاء الى السلطة في ظل هواري بومدين، وبقي الرجل الثاني حتى وفاة "والده الروحي". عرَف كما يقال أسرار وخفايا "السرايا"، وبطبيعة الحال المؤسسة العسكرية ونسج خلال ثلاثة عشر عاماً من السلطة علاقات واسعة وعميقة وقوية مع أطراف السلطة مدنيين تاريخيين وعسكريين.
ولذا حين تولى الرئاسة، لم يضطر لتمضية الوقت لفك أسرار العلاقات في "طفارة" و"المرادية"، ولا أيضاً طبيعة توازن القوى بينهما. ولهذا التقط بوتفليقة باكراً المفتاح الأساسي لمجيئه وهو أن المؤسسة العسكرية قد هزمت في خيارها العسكري ويمكنه من "عقب اخيل" هذه أن يوجه الضربات الى خصومه التاريخيين وفي إطار إعادة الجزائر الى المدنيين.
وخلال السنوات الثلاث الأولى من ولايته أمضى بوتفليقة وقته في الطائرة، ينتقل من دولة الى دولة ومن جولة الى جولة، حتى إن الإعلام المقرّب من المؤسسة الإعلامية، كرر تعليقاً على وضع الرئيس وهو "نرجو أن يقوم الرئيس بزيارتنا في الجزائر". وفي حين كان الجنرالات يرتاحون لهذا "الغياب"، كان بوتفليقة ينسج "بيت العنكبوت" حولهم، معتمداً سيناريو داخلي وخارجي متكامل الخيوط، ومن ذلك:
التشديد في خُطبه الداخلية على أن توقيت المسار الانتخابي أو ما أصبح يعرف بانقلاب 11 يناير، كان خطأ ارتكبه الجيش، وأدى الى مسيرة العنف التي أصبحت تعرف بـ"العشرية السوداء".
طرح مشروع "الوئام الوطني" المعاكس لمشروع "الاستئصال" الذي وضعه وقاده الجنرال خالد نزار ثم خليفته الفريق محمد العماري. وعندما نجح في فرضه وأطلق الشيخ عباس مدني وعلي بلحاج وغيرهما من اسلاميي "الجبهة الاسلامية للانقاذ"، شدد على أنه فعل ذلك على الرغم من أنف المؤسسة العسكرية وجنرالاتها.
عمد في كل لقاءاته الدولية وخاصة مع الرئيس جاك شيراك على "تسويد" صفحة المؤسسة العسكرية، مشدداً على انها تتحمل جزءاً مهماً من مآسي "الارهاب" بفعل "الارهاب المضاد"، وان هزيمة "الارهاب لا تكون بالحل العسكري بل بحل سياسي واجتماعي واقتصادي متكامل.
تبنى خلال قمة الجزائر الافريقية، قرار عدم الاعتراف بأي نظام منبثق من انقلاب عسكري.
استثمر الى أقصى درجة "التوافق" الفرنسي ـ الأميركي" حول ضرورة استعادة الجزائر سلامها الأهلي وموقعها ودورها الاقليمي والدولي!
شجع بوتفليقة فتح أبواب الجزائر أمام المنظمات الانسانية، لكشف ملفات التعذيب والمخطوفين والمختفين عسكريين ومدنيين. ويقال انه ذهب في ذلك الى درحة تحضير سبعة آلاف ملف يمكن سؤال الجنرالات وباقي أطراف المؤسسة العسكرية حول مصير أصحابها، وجاءه العون الخارجي، حين جرت محاكمة خالد نزار في باريس فتحول الى "مثال" لكل "الاستئصاليين، مع احتمال تكرار "المحاكمات" بدون تحفظات، لا بل بتشجيع وموافقة جزائرية رسمية في المستقبل. وان صمت بعضهم وموالاته، هو طريقتهم لكي لا يتحولوا الى "فئران" لا يجسرون على مغادرة الجزائر.
وخلال هذا المسار، عمد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الى تشديد الحصار على مجموعة "الاستئصاليين" وخاصة الفريق العماري، انطلاقاً من أن انقسام المؤسسة العسكرية لأول مرة حول هوية الرئيس المقبل للجمهورية قد أسقط "وحده" المؤسسة العسكرية، فأصبحت "الضعيفة بين "الضعفاء" من القوى السياسية، وليست "الأقوى" بين "الضعفاء". وخلال تجواله الخارجي عمد مع مجموعة من قدماء الصباط الى خلق توازن جديد داخل الثكن. ولعل اخراج الجنرال محمد التواني (المعروف باسم "المخ" في المؤسسة) من "الطفارة" الى "المرادية" كمستشار للرئاسة شكل ضربة خفية ضد العماري لأنه أفقده "المخ" كما يقال في الجزائر. كما عمد بوتفليقة الى استثمار تحول عميق ضمن مجموعات الضباط الجدد. فهم من جهة يرون من حقهم الشرعي الصعود الى الصف الأول من القيادة، وعدم البقاء تحت مظلة جنرالات تجاوزوا السبعين من عمرهم، فترهلوا في القيادة في وقت يحتاج الجيش الى ضباط عصريين يعرفون التطورات والاستحداثات والتكتيكات العسكرية الجديدة المتوافقة مع المتغيرات التكنولوجية. كما التقط صدى غزو العراق في الفكر العسكري الجزائري اذ أدرك الكولونيلات الجدد في الجيش الجزائري ان الغزو الاستعماري ممكن في القرن الواحد والعشرين ولذا من الأفضل الاستعداد عسكرياً على جميع الأصعدة جاهزية وتدريباً وسلاحاً من الانخراط في الحروب السياسية. ولذلك ركز بوتفليقة على سياسة تحديث الجيش معتمداً في ذلك على "التوافق" الفرنسي ـ الأميركي! دافعاً الى الواجهة مجموعات من هؤلاء الضباط المتشوقين لأخذ موقعهم الشرعي!
نهاية الفريق محمد العماري هي في آن نهاية عصر طويل في الجزائر. لكن بدايات العصر الجديد ما زالت تطل برأسها، وأمام بوتفليقة أيام صعبة ودقيقة وحساسة لكي يربح ومعه الجزائريون "الحرب"!.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00