8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

إعادة تركيب التمثيل الشيعي في العراق!

معركة النجف معارك عدة في معركة واحدة. والمعركة مع السيد مقتدى الصدر و"جيش المهدي" ليست سوى البارز منها لأن النار تحيط بالصحن العلوي الشريف. ففي النجف الآن وقبلها في بغداد، يواصل الأميركيون صوغ التمثيل الشيعي في العراق الذي يريدونه نظاماً ومؤسسات، وهم لم يخوضوا هذه المعركة الحاسمة إلا في إطار استراتيجية واضحة استفادت من مفاعيل تطوّرات وأحداث سنة كاملة من الاحتلال والمقاومة والإرهاب، فاستثمرتها في تنفيذ دقيق، وبتصميم قوي وببراعة يجب الاعتراف بها. وهي كما يبدو تغطي مساحة العراق وليس المساحة المحدودة للنجف فحسب، تطبق مبدأ لعبة "البلياردو" ذات الكرات الثلاث بمهارة شديدة، أي التصويب بالكرة البيضاء على كرة لضرب الكرة الثالثة، فتكون النتيجة إصابتان في واحدة!.
وبداية فإن السيد مقتدى الصدر الممتد في حضوره من ارث نضالي وفقهي هو نتاج والده السيد محمد الصدر وقبله السيد الصدر الأول، أثبت ان له تأييداً شعبياً وانفتاحاً على الشرائح الشيعية من النجف إلى بغداد يمكن استثماره بقوة وفاعلية في عراق المستقبل. لكن المشكلة ان السيد مقتدى الصدر بدأ حضوره في أصعب مرحلة سياسية يمر فيها العراق، وهو لم ينضج سياسياً وقيادة بحجم حضوره الشعبي. فهو قطعاً كان وما زال ضدّ الاحتلال الأميركي للعراق، وهو قطعاً ليس مع قيام جمهورية إسلامية على غرار الجمهورية الإسلامية في إيران، لكن هذه المواقف الصلبة كان وما زال ينقصها الصيغة التي تضع التكتيك الناجح في خدمة استراتيجية واقعية قائمة على الصلاحية "الايديولوجية" المتميزة. ولذلك بدا طوال عام متخبطاً في حركته السياسية يقبل اليوم ما رفضه بالأمس، ويرفض اليوم ما قبله بالأمس. ولذلك نجح الأميركيون في استدراجه إلى الفخ الذي نصبوه له، وهو على ما يبدو يعلم بالعملية هذه التي جرت على فترات وفي موجات متتالية وتعتمد سياسة المدّ والجزر. فيوماً يعتقلون أحد ممثليه أو كادراته ويوماً آخر يطلقونه. يقفلون صحيفته ومن ثم يعيدون فتحها.. حتى إذا جاء رفضه للمشاركة في "المؤتمر الوطني"، بدا وكأنه خرج عن الإجماع!. والاخطر من ذلك انه ظهر في موقع الذي يضعف الشيعة حضوراً وتمثيلاً، بدلاً من تقويته وتصليب تمثيلهم. كما ان تحصنه في مدينته النجف، قدم على انه أخذ المدينة بسكانها وأماكنها المقدسة رهينة لطموحاته السياسية! وإذا ما أضيف إلى ذلك كله ربط تصعيده بالتصعيد الإيراني في مواجهتهم مع الأميركيين على وقع الملف النووي، فإن تصفيته سواء الشخصية أو السياسية تصبح مشروعة!.
والواقع أن "المرجعية الناطقة" التي اطلقت على مرجعية السيد الصدر الثالث، لم تعرف اين ومتى وكيف "تنطق" وكانت النتيجة اتساع الدمار في النجف وارتفاع عدد الضحايا. وما ذلك إلا لأن "جيش المهدي" المفترض أن يخوض "حرب الأنصار" خاض حرباً "مدينية" وهو غير مستعد لها أساساً وفي مدينة كل إمكاناتها الدفاعية "الصحن العلوي الشريف".
وبدورها فإن "المرجعية الصامتة" كما اطلق عليها مجازاً والتي يقف فيها إلى جانب السيد السيستاني المراجع الثلاثة ومنهم السيد محمد سعيد الحكيم لم تعرف ايضاً متى وأين وكيف تصمت، فأعطت الأميركيين "هدية" مكشوفة لا يمكن تفسير أسبابها مهما بلغت منها حسن النيات سوى انها من نوع الصمت في معرض الموافقة. ولا شك في أن مردودات ومفاعيل هذا "الصمت"، بل هذا الغياب عن الساحة النجفية في وقت لا صوت يعلو فوق صوت القصف المدفعي والجوي، ستعيد هذه "المرجعية" إلى الدائرة المغلقة للمرجعية الفقهية لأون الحضور الشعبي هو الذي يمنح هذه المرجعية شرعيتها الشعبية. وفي هذا خسارة كبيرة للدور الذي كانت النجف تأمل من خلاله استعادة موقعها الطبيعي كعاصمة للحوزة بعد أن فقدته في ظل صدام حسين وقيادة الإمام الخميني. ولا شك في أن هذه المرجعية قد دفعت إلى الفخ الأميركي الذي أعدّ له بعناية بالغة على خلفية الخلافات الدامية أحياناً منذ سقوط نظام صدام حسين بين الصدر الثالث ومرجعية السيد السيستاني. وما هذه اللعبة الأميركية سوى التمهيد لتقليص تأثير المرجعية بعدما تبين انه في أي لحظة تقع فيها مواجهة مع المشروع الأميركي للعراق يمكن أن تشكل هذه المرجعية قيادة تحرك الشارع الشيعي مستنهضة فيه كل الحالة الشيعية!.
وتمّ استكمال ضرب "المرجعية" ممثلة بالسيستاني والصدر بحصر مرجعية المدرسين في كربلاء، قابلا بها حصنا له لا يتمدد خارجها ولا يتدخل سوى في بعض البيانات التي تحمل مواقف متشددة مشلولة الحركة أصلاً. ويبدو، ان آية الله مدرسي فهم حدود موقعه منذ لحظة دخوله العراق وأسره على يد منظمة "مجاهدي خلق" الايرانية، وتحرير الأميركيين له!.
وفي الاطار نفسه وقبل هذا أو ذاك، فإن "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" الذي فقد زعيمه آية الله محمد باقر الحكيم باكراً، دخل "جنة" السلطة، مبتعدا يوماً بعد يوم عن ملجئه الايراني السابق مبقياً نفسه على مسافة معقولة مع طهران بحيث لا يتنكّر لماضيه ولا ينخرط في لعبتها الخاصة كما كان دوره أيام "لواء بدر" في الحرب العراقية ـ الايرانية.
كذلك فإن "حزب الدعوة" الذي كان يشكّل محور المواجهة مع النظام السابق، ويقف على "يسار" كلّ المعارضة، اختار بعد انقسامه الدخول في السلطة، مؤكداً بذلك احادية مواقفه السياسية، فهدفه كان إسقاط النظام بأي ثمن حتى ولو كان ذلك لعبة "لوتري" (يانصيب وطني) كما قال لي مرة السيد محمد بحر العلوم، والذي اكتشف أخيراً ان العلاقة مع الأميركيين ليست رابحة سياسياً في جميع مراحلها، فخرج مع ابنه من السلطة بعد ان تولى رئاسة المجلس المؤقت وشغل ابنه وزارة النفط التي خرجت سالمة من النهب والتدمير بعكس متحف بغداد ذاكرة العراق والمنطقة!.
وفي بغداد بعيداً عن النجف، فإن إبعاد الدكتور أحمد الجلبي وإن كانت أسبابه كثيرة منها ما ينطلق من واشنطن نفسها حيث انتصر جناح الاستخبارات المركزية على البنتاغون، فإن إبعاده جرى أيضاً لأنه تزعم "حزب استئصال البعث". وقد تبين للأميركيين بعد سنة من الاحتلال ان الخلط بين البعث والسنّة ومشاركتهم في السلطة لا يسمح بهذا النهج الاستئصالي ولا بسياسته الاستئصالية في دوائر السلطة والخارطة السياسية، ولذلك فإن تسلم اياد العلاوي رئاسة الحكومة المؤقتة فيه الشيء الكثير من سيادة مشروعه السياسي المضاد لاستئصال حزب البعث، لا بل أكثر من ذلك العمل على كسب كادرات هذا الحزب وإدخالهم في السلطة ووضعهم في خدمة المشروع الأميركي لصياغة العراق الجديد!.
والواقع أيضاً ان تزعم علاوي السلطة في هذا الوقت، بكل ما هو معروف عنه من تصلب واندفاع وقدرة على الذهاب في المواجهة مع باقي الأطراف الشيعية، وهو الشيعي الذي له جذوره العائلية في عراق ما قبل صدام حسين، يتوافق مع الطموحات الأميركية، فماذا تريد واشنطن أكثر من ان يضع رئيس الحكومة الشيعي نفسه على رأس المواجهة ويذهب إلى النجف متحدياً، ودائماً تحت شعار بناء العراق الجديد بسرعة للتعجيل في رحيل الأميركيين.
وهنا تكاد دائرة "لبننة" النظام العراقي تكتمل على جميع الصعد، فالأكراد قد عرفوا مدى ارتفاع "السقف" الذي يمكنهم التحرك تحته بحرية كاملة (وهو "سقف" حدّد أميركياً بالتوافق مع تركيا) ولذلك يعملون على أساس القاعدة: ما هو لي لي وحدي، وما للآخرين من الشيعة والسنّة العرب لي ولهم!، فهم بنوا مؤسساتهم ويضعونها مثالاً للتوافق البرزاني ـ الطالباني أمام الآخرين، بحيث إذا جاء يوم الوعد بقيام الدولة الكردية غير الموعودة حتى الآن يكونون جاهزين، وفي الوقت نفسه يتابعون مسار بناء الدولة الفديرالية.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00