تناسى الفرنسيون كل "حروب" الخلافة واستعادوا وحدتهم على جميع الصعد الرسمية والشعبية والحزبية أمام أزمة خطف الصحافيين كريستيان شينو وجورج مالبرونو في العراق. ومنذ اللحظات الأولى لبث الشريط المصور للصحافيين، وهما يوجهان رسائلهما بالعربية والفرنسية وخلفهما شعار "الجيش الإسلامي في العراق" أعلنا ما يشبه الاستنفار العام السياسي والأمني. وكانت قمة هذا الاستنفار توجه وزير الخارجية الفرنسية ميشال بارنييه الى المنطقة، بعد انتهاء اجتماع استثنائي برئاسة الرئيس جاك شيراك لمجموعة العمل الوزارية التي شكلت لملاحقة ملف الأزمة. فالسلطات الفرنسية التي تابعت بث الشريط، أدركت عمق الأزمة، وتعقيدات أسبابها وضبابية أهدافها، من جهة، وخطورة الوضع، خاصة ما يتعلق بحياة شينو ومالبرونو. فقد سبق للمنظمة نفسها أن هددت ونفذت تهديدها بقتل الصحافي الايطالي الذي خطفته، بعد أن رفضت الحكومة الايطالية، التنازل أمام مطالب الخاطفين. ولذلك فإن الهم الكبير للمسؤولين الفرنسيين وفي مقدمهم الرئيس جاك شيراك، ورئيس الوزراء جان بيار رافاران، العمل لإنقاذ حياة الرهينتين، دون تقديم تنازلات للخاطفين من جهة، وضمان عدم انعكاس نتائج هذه العملية التي ربطت بمسألة داخلية بحتة هي منع الحجاب وكل الاشارات والرموز الدينية في المدارس، على المجتمع الفرنسي، بحيث يتم الخلط بين هذا الإرهاب الخارجي والاسلام والمسلمين في فرنسا، وهو ما تفادته فرنسا، حتى في عز تفاعلات أحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة الأميركية.
وبدا لافتاً لأنظار الفرنسيين، مسارعة جميع الهيئات الإسلامية، بما فيها "اتحاد الهيئات الإسلامية في فرنسا" القريبة من حركة الاخوان المسلمين والتي كانت قد تصدت لقانون منع الحجاب في المدارس، الى المشاركة في الوقوف الى جانب باقي المنظمات مع وزير الداخلية دومينيك دوفيلبان، لإدانة العملية كلها، و"للمطالبة معاً بالإفراج عن الصحافيين". ولا شك أن دوفيلبان الذي يبدأ بهذه العملية "أولى معمودياته في السياسة الداخلية" كان صادقاً وهو يقول "الفرنسيون بكل أصولهم ودياناتهم متحدون في دعم مواطنينا للإفراج عنهما".
وإذا كان من الطبيعي أن يدين دليل بوبكر رئيس المجلس الاسلامي للشعائر الإسلامية، وهو المعروف باعتداله عملية الختطاف ويعتبرها ابتزازاً مشيناً، فإن مواقف كل من محمد بشاري رئيس اتحاد الهيئات الإسلامية في فرنسا، وفتحية الجبلي وطارق رمضان، بدت أكثر وقعاً في إدانتها للعملية. فقد رفض بشاري تدخل أي قوة أجنبية في العلاقات بين اسلام فرنسا مع الجمهورية".
وبدورها أعلنت الجبلي "ارفض أن يلطخ حجابي بالدماء وانا مستعدة لأن أكون رهينة لدى الخاطفين بدلاً من شينو ومالبرونو". أما طارق رمضان الذي سحبت منه إقامته في الولايات المتحدة الأميركية حيث كان يستعد للتدريس في جامعة هارفارد، بعد أن ضيقت عليه الهيئات الصهيونية ومثقفوها ومفكروها الفرنسيون، مجال العمل والحركة داخل فرنسا. فقد دان هذا الاختطاف، وطالب الحكومة الفرنسية "بعدم التنازل أمام هذا الابتزاز الرخيص والمشين والمثير للاشمئزاز".
هذه "الوحدة"، وان كانت قد اثارت ارتياح الفرنسيين، إلا انهم استعادوا في تفاصيلها اسوأ أيام "اللبننة" في لبنان عندما خطف العديد من الصحافيين، ولذلك فإن الفرنسيين من رسميين ومراقبين، يرون أن "لبننة" العراق تتم بسرعة كبيرة، نتيجة لاختراقات واسعة من قوى عدة تبدو مصالحها متضاربة. ولا يستبعد الفرنسيون أن يكون هدف الخاطفين أبعد من التدخل في شأن يعتبرونه شأناً داخلياً، حتى وان كانت ابعاده قد تجاوزت حدود فرنسا، وهذا الهدف هو "ضرب الموقف الفرنسي المعارض لكل انواع التدخل في العراق خارج اطار الأمم المتحدة، والعمل لإحداث انقلاب في الرأي العام الفرنسي، من خلال تعليقات تقول: انظروا ماذا يفعلون بنا نحن الذين وقفنا الى جانب الشعب العراقي، انهم لا يستحقون هذه التضحية". ومن الطبيعي ان اي انقلاب ولو محدوداً في الرأي العام، سيؤدي الى مزيد من الضغوط على السياسة الفرنسية الرسمية تجاه الهيمنة الأميركية عليها، حتى في عقر دارها الأوروبية.
واذا كان الرئيس شيراك قد التقط منذ اللحظة الأولى للحرب في العراق، تعقيدات الساحة العراقية، وخطورة تحولها الى "مستنقع" لكل طرف يدخلها، فإن الأوساط الفرنسية تتساءل عن أسباب هذا "الانحراف" في عمل المنظمات الناشطة عسكريا ضد الاحتلال في العراق، لأن مطالبة فرنسا بإلغاء قانون منع الحجاب خلال 48 ساعة من البيان المتلفز للرهينتين، تشكل تحولاً خطيراً في عمل هذه المنظمات، اذا انها تنقل "الحرب" من الداخل العراقي الى الخارج، خصوصاً وان المستهدف دولة صديقة للعراق، وهذا كله مخالف لأبسط قواعد مقاومة "الاحتلال"، فالمعروف ان المعركة الأولى يجب أن تكون ضد المحتل، وأن المطلوب توسيع جبهة الحلفاء والأصدقاء والمتفهمين لهذه المقاومة وبالتالي تشريعها. ولاحظت مصادر فرنسية أنه تم حتى الآن رصد 60 منظمة تعمل ضد الاحتلال في العراق، وان ثماني منها تخصصت في عمليات الخطف على نطاق واسع. وتبدو منظمة الجيش الاسلامي واحدة من أخطرها".
وزير التعليم فرانسوا فيلد، كان يستعد لنزع فتيل التوتر، في اليوم الأول للدخول الى المدارس في الثالث من أيلول المقبل. ولذلك فإنه أعطى توجيهاته "بفتح الحوار بين النظار في المدارس والفتيات المحجبات قبل اتخاذ أي عقاب". فالمهم "حماية أبنائنا من الأصولية الدينية التي تعمل على التلاعب بهم داخل مدارسهم". لكن منظمة "الجيش الاسلامي في العراق"، اختارت طريق "الإرهاب" لإحداث هزة داخل فرنسا، التي يعنيها أولاً انقاذ الرهينتين، علماً ان التفاؤل يسود الأوساط الاعلامية في فرنسا، بأن بيان الخاطفين لا يتضمن تهديداً لحياة شينو ومالبرونو كما حصل مع الصحافي الايطالي. ولعل هذا، ينهي العملية كلها في اطار "البلاغ والتبليغ"!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.