سباق فرنسا مع الزمن لإنقاذ الصحافيَين كريستيان شينو وجورج مالبرونو، هو بضعة سباقات في سباق واحد. وإذا كانت حياة شينو ومالبرونو غالية على كل الفرنسيين، فإن إنقاذ الحكومة الفرنسية لمواقفها من العراق وعدم تعرضها للمساءلة الشعبية حول جدوى مواقفها ضرورةٌ لئلا يقال إن فرنسا والفرنسيين سيقعون في "مستنقع" الإرهاب الذي لا يفرق بين الأطراف ولا المواقف وهو سباق داخلي، للحؤول دون ان يصب البعض الزيت على نار الخلط بين الإرهاب والإسلام، كيلا تتأثر الجبهة الداخلية الفرنسية، وتقع فريسة لمزيد من التصلب في مواقف الجاليات من بعضها بعضا، وفي النهاية تخضع لتجربة المواجهات التي تهدد السلم الأهلي حتى لو في أبسط صوره!
وأما مسارعة الرئيس جاك شيراك للإمساك فوراً بملف الصحافيين، وترؤس هيئة وزارية للأزمة وتوجيهه وزير الخارجية ميشال بارنييه الى المنطقة، ليست إلا للحؤول دون تشتت الجهود، وعدم حصول منافسات بين قوى وأجهزة فرنسية، تمهيداً لدخول أطراف خارجية كما حصل مع فرنسا، خلال محنة خطف الصحافيين والديبلوماسيين الفرنسيين في لبنان، فقد أدى التنافس بين الاليزيه الذي كان الرئيس فرانسوا ميتران يقطنه، وقصر الماتينيون حيث كان جاك شيراك رئيس الوزراء، حول الإمساك بملف إطلاق الرهائن الفرنسيين، الى السقوط في شراك الوسطاء والخضوع لضغوط متقاربة أدت الى اطالة أمد حل قضية الرهائن وإطلاقهم ، وخَسارة حياة أبرزهم ميشال سورا.
ولم يكن اختيار ميشال بارنييه وزير الخارجية الفرنسي للقاهرة محطة أولى لجولته في المنطقة، مجرد خطوة في مسار طويل، بل كان نتيجة لإدراك الخارجية الفرنسية العميق وبتوجيه من شيراك الممسك "بمفاتيح" أسرار العلاقات في العالم العربي، وأن القاهرة وإن كانت بعيدة من التنظيمات الأصولية التي تخطف في العراق، إلا أن خبرتها الطويلة بخفايا المنظمات الأصولية واسرارها، ستساعد فرنسا في مهمتها، ومما يؤكد ذلك، أن بارنييه جمع في لقاءاته السياسة والأمن والازهر. فقد التقى نظيره المصري أحمد أبو الغيط والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى الذي اتخذ موقفاً علنياً في "رفض الخطف وإدانته"، وبطبيعة الحال أطل عبر هذه اللقاءات على خبرة الديبلوماسي المصري محمد ممدوح قطب الذي قبل أن يخطف في العراق، كان تولى مفاوضات طويلة وصعبة مع المنظمات العراقية لإطلاق العديد من المصريين الذين خطفوا. كما التقى الوزير محمد سليمان رَجل الأمن الأول في مصر الذي يملك خبرة واسعة في معالجته للملف الفلسطيني. هذا دون أن يغيب عن الاذهان وجود جان كلود كوسران سفيراً لبلاده في القاهرة، والذي شغل سنوات عديدة منصب رئيس جهاز الأمن المضاد للتجسس في باريس.
الى ذلك عقد بارنييه اجتماعين مهمين مع الشيخ قرضاوي وشيخ الأزهر اللذين طالبا بإطلاق الصحافيين، كما نجح في الحصول وهو في القاهرة على رفض لجماعة الإخوان المسلمين التام لخطف المواطنين الفرنسيين.
وبناء على خطة مدروسة جيداً، فإن وزير الخارجية الفرنسي، دفع تحركه الديبلوماسي المكثف الى توجيه الأمين العام للوزارة وعدد من مساعديه الى بغداد لدعم المساعي لإطلاق الرهينتين. وأكمل كل ذلك بمخاطبة المشاعر الانسانية والدينية لدى العرب والمسلمين بتوجيهه نداء حاراً ومثيراً للعواطف مساهمةً وضغطا لإطلاق الصحافيين عبر وسائل الإعلام العربية، وأساس هذا النداء تشديد على أن احترام مبادئ الانسانية والكائن البشري في صميم رسالة الإسلام والممارسة الدينية وجمهوريتنا تضمن المساواة وحماية كل الاديان في إطار قانوننا المشترك.
ويرى الفرنسيون رسميين وحزبيين، ان الصحيح عدم وجود "خط ماجينو" أمام الإرهاب، وأن لا أحد، مهما كانت مواقفه ايجابية ومبدئية تنجيه من خطر السقوط في "مستنقع" الإرهاب، ويجب ألا يؤدي هذا الامتحان الصعب، الى انقلاب في المواقف، ومما يساهم في ذلك، أن "جبهة للرفض" قد ولِدت بسرعة قياسية داخل فرنسا من مختلف القوى، وبخاصة بين القوى والمجموعات الإسلامية الأشد راديكالية ضدّ هذه العملية ووصلت ردود الفعل هذه الى درجة اعتبار ما حصل بأنه يعني تهديداً لها!
والأهم من ذلك تمدد وانتشار "جبهة الرفض" هذه الى العالم العربي، بحيث إن اجماعاً كاملاً قد حصل ضد العملية لانها استهدفت دولة صديقة وحليفة كما طالبت جميعها بإطلاق الرهينتين، وكل ذلك وياللأسف كما يقول الفرنسيون لم يحصل مع ايطاليا حين وقعت عملية خطف الصحافي انزو بالدوني، كما لم يصدر استنكار من المنظمات لدى قتله.
فرنسا تأمل بقوة إطلاق الصحافيين شينو ومالبرونو خاصة انهما "أظهرا دوماً تفهمهما للشعب العراقي وتعلقهما بالعالمين العربي والإسلامي" كما قال بارنييه. وحتى يصدر ما يترجم هذا الأمل فإن الخوف من أن تكون العملية كلها جزءا من "حرب الأجهزة" المختلفة المصدر والهدف، سيظل سيدًا!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.