الكلام الفرنسي شبه الرسمي من أن القرار 1559، لم يعد "سيفاً مصلتاً" على سوريا، بل صار "جرساً" يقرع للتنبيه أو التذكير أو للتحذير، في أي وقت، وأي موقف لافت في مجانبة مفاعيل القرار أو تجاهله، لا يعني برأي الأوساط الفرنسية السياسية والديبلوماسية، إسقاطاً للقرار، أو وضعه على الرف أو في ادراج الأمم المتحدة التي تختزن عشرات القرارات التاريخية المتعلقة بالشرق الأوسط، وما حصل برأي هذه الأوساط، هو اعتدال يستند الى جملة ثوابت لا يمكن التخلي عنها أو استبدالها، ومتغيرات لا يمكن تجاهلها وإسقاط مفاعيلها.
وتشدّد الأوساط الفرنسية، على مجموعة الثوابت ومنها ان المسار الذي وضع لتنفيذ القرار 1559، ثابت، وان كان سرعة السير التصاعدية فيه قد تكون بطيئة احياناً، لكن هذا البطء لا يعني مطلقاً كما قضت هذه الأوساط انه سيقود الى مسار مشابه لتنفيذ القرار 425، أي انتظار ربع قرن لتنفيذه، فالزمن تغيّر، ثم ان إسرائيل كانت هي الطرف المطالَب في القرار 425، بكل ما يعني ذلك من التصاقه بالموقف الأميركي المترجم في أي لحظة باستخدام حق الفيتو. ومن هذه الثوابت ايضاً بالنسبة لفرنسا، انها لم تفكر في أي لحظة من اللحظات بالسقوط في فخ المواجهة مع سوريا، أو إسقاطها من خريطة تحالفاتها في المنطقة، أو انكار خصوصية العلاقة السورية ـ اللبنانية. يضاف الى ذلك، انه ليس لفرنسا مع سوريا ملفات كامنة أو مفتوحة كما في العلاقات الأميركية ـ السورية، فكل ما تريده باريس "استرجاع لبنان لقراره الوطني المستقل"، وفي الوقت نفسه المحافظة على علاقات الصداقة والتحالف مع دمشق لمصلحة الجميع. وفي الوقت نفسه، فإن باريس لا تخفي "غضبها ولا حتى ألمها"، من دفع دمشق لها للدخول في مسار واحد مع واشنطن. وهي ترى كما تقول الأوساط نفسها، ان دمشق "تجاهلت كثيراً المبادرات التي قامت بها، والتي كان في صلبها التدخل الشخصي للرئيس جاك شيراك والذي تجاوز أحياناً البروتوكول تأكيداً منه على رغبته بالعلاقة الخاصة مع دمشق وتحديداً مع الرئيس بشار الأسد.
لكن ما حصل من دمشق كان عكس هذا التوجه، الى درجة أن بعض الأوساط الفرنسية ترى أن دمشق تعاملت مع فرنسا وكأنها تتعامل مع موسكو أيام الحرب الباردة، أي مبادلة السلاح بالمواقف الإعلامية، أما المبادرات العملانية سواء في سوريا أو باتجاه لبنان، وبخاصة ما يتعلق بالمساهمة في تنفيذ التزامات باريس ـ 2، فكانت معاكسة. ولعل صفقة الغاز والتي تدخل فيها شيراك شخصياً برسالة مباشرة الى الرئيس الأسد هي المثال الفاقع والذي كان "القشة التي قصمت ظهر البعير". فالأوساط نفسها تقول "انه زمن المواقف والصفقات، انظروا الى علاقاتنا مع فيتنام والصين الشعبية، فالود الشديد في العلاقات هو "النار الحامية" لانضاج عقود طائرات الباص وقطارات ض6ش والنواظم الهاتفية!
ومن صلب المتغيرات التي أثرت في هذا المسار، أن العالم كله وليس الولايات المتحدة الأميركية على موعد تاريخي مع الانتخابات الرئاسية، وإذا كانت هذه الانتخابات تعني العالم كله، فإنها تحديداً هذا العام تعنيه أكثر من أي وقت مضى. وعودة جورج بوش الى الرئاسة لها نتائجها واثارها خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وانتخاب جون كيري سيكون له مفاعيله العميقة، لكن مع وجوب انتظار أشهر طويلة قد تمتد حتى آذار المقبل، عندما تكون هذه الإدارة قد وقفت وترسخت اقدامها وتوضحت استراتيجيتها وأولوياتها. ولذلك فإن باريس ترى وجوب التعامل مع هذا المتغير على أساس انه وقت يمكن خلاله المراقبة بواسطة العدسة المقربة للقرار 1559، والتدقيق ليس في الرغبات النيات، وانما على أساس الإجراءات والممارسات.
وإذا كانت باريس ترى أن بوش الثاني لن يكون مثل بوش الأول إذا ما أعيد انتخابه لانه سيكون أكثر تحرراً من الوعود ومن مخاوف مجموعات الضغط مما يفتح الباب أمام تعاون أكثر معه من الفترة الرئاسية الأولى، فإن كيري إذا ما انتخب سيكون أكثر استعداداً للانفتاح والتعاون معها ومع أوروبا والأخذ بعين الاعتبار لمواقف حلفائه، وفي الحالتين تبدو باريس مطمئنة الى نتائج الانتخابات الأميركية.
ولا تنفي الأوساط الفرنسية نفسها، احتمال وقوع "خيانة" أميركية لها لمقايضة لبنان بالعراق، لكن هذه الأوساط تقول إن التغيير المقبل مع بوش أو كيري في طبيعة حركة السياسة الأميركية يؤشر الى أن واشنطن لن تهمل مواقف حلفائها هذه المرة خاصة وأن موقف فرنسا من الملف اللبناني ـ السوري هو موقف أوروبي يستند الى سندان "ترويكا" ناشئة وصلبة مشكلة منها ومن ألمانيا واسبانيا، وتشير هذه الأوساط الى أن باريس وفي محاولة منها لتأكيد أهمية موقفها الأوروبي، رفعت "شروطها" عن مؤتمر شرم الشيخ حول العراق، وحولتها الى مواقف لدعم نجاح المؤتمر لتقول لواشنطن كم أن تعاونهما يكون مثمراً في حالة التفاهم والتوافق، وأخيراً في هذا المجال، فإن باريس ترى أن واشنطن أخذت من دمشق كل ما تحتاجه في الملف العراقي، وهي ليست بحاجة الى مقايضة من أي نوع حتى تحصل على التعاون السوري المثمر والمنتج معاً بما يتعلق بالعراق ذلك أن دمشق أمسكت بدقة بحساسية الموقف الأميركي من الحدود السورية ـ العراقية وحتى داخل العراق نفسه ودائرته "المفتوحة على النار" في النجف وكربلاء ومدينة الصدر!.
ولا تخفي الأوساط الفرنسية السياسية والديبلوماسية أن الواقع يفرض معادلاته، ومن ذلك أن القرار 1559 لا يملك آلية لتنفيذه أولاً، وثانياً أن باريس لا تريد أن ينفذ بدون إجماع حقيقي داخل مجلس الأمن لانها وهي التي وقفت ضد الحرب في العراق لغياب الأمم المتحدة وشرعيتها، تريد بأي ثمن الحصول على هذه الشرعية الدولية، وتبدو باريس مطمئنة الى الأشهر المقبلة حيث التغيير في الأعضاء غير الدائمين هو لمصلحة التحالف الأميركي ـ الفرنسي، وأن واشنطن هي التي ستترأس مجلس الأمن الشهر المقبل، وبذلك كله، ستكون القرارات إذا اتجهت وجهة الرياح نحوها أسرع وانجع! وعندها ايضاً يصبح التحول من البيان الى القرار أو العكس، تأكيداً ناجزاً لما يجب أن يحصل وينفذ!
واستكمالاً لذلك، فإن الأوساط الفرنسية نفسها ترى أن آلية تنفيذ القرار 1559، يمكن أن تكون من خارجه، فأمام المجتمع الدولي، استحقاق أول، هو في التجديد لقوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان. وهذا التجديد مؤكد في الدورة المقبلة مع مطلع العام المقبل، لكن قد ترى باريس وواشنطن معاً، أن يتم التأكيد على أن هذا التجديد شبه التلقائي قد يكون الأخير، لأن التجديد المقبل سيربط بمسار تنفيذ القرار 1559، ولا تستغرب هذه الأوساط هذا الشرط الربطي، ذلك أن القرار قد "دول" الوضع اللبناني إذ لم يعد انسحاب القوات الأجنبية، والمقصود فيها السورية لأن القرار 425 أنهى انسحاب القوات الإسرائيلية المحتلة، خاضعاً لاتفاق الطائف فقط.
الى جانب هذا الاستحقاق، فإن استحقاقاً لبنانياً ربيعياً سيكون هو الأكثر تأثيراً في الموقف الدولي كله. فباريس ترى أن الانتخابات التشريعية المقبلة ستكون تحت "المجهر الدولي"، ولن تكون شفافية ونزاهة هذه الانتخابات هي المقصود من ذلك، بل أن الهدف الأول يكمن في قانون الانتخابات نفسه. ذلك انه في "تفاصيل التقسيم الانتخابي يكمن شيطان النتائج ولذلك فإن باريس وواشنطن ومعهما مجلس الأمن سيلاحقان عن كثب صياغة قانون الانتخابات وخاصة ما يتعلق بتوزيع الدوائر، وبعد ذلك ستلاحق إجراءات الانتخابات ومجراها ونتائجها.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.