تشعر باريس، وكأنها طعنت في ظهرها في ساحل العاج عن سابق تصور وتصميم. ولذلك ردت بقوة وقسوة على مقتل جنودها التسعة، تحت بند "الدفاع المشروع"، والقرار بالرد جاء مباشرة من الرئيس جاك شيراك الذي يتابع التطورات منذ ظهور البوادر الأولى لتفجر المواجهة، فقد سبق له في الثالث من الشهر الجاري أن اتصل هاتفياً بالرئيس العاجي لوران غباغبو وأبلغه حرفياً كما نقل ذلك وزير الخارجية ميشال بارنييه: "توقف. ارجع رجل الوفاق"!
وهذه الدعوة الشيراكية، تعود الى أن شيراك وقف بقوة لعقد مؤتمر "ماركسوسي" (ضاحية باريسية) وإنجاحه لكي لا تتحول ساحل العاج بعد وفاة هوفييه بوانييه الى ساحل تلتهمه نيران الحرب الأهلية كما حصل في جوارها وعلى أطرافها في افريقيا. فساحل العاج كانت "واجهة" فرنسا في غرب افريقيا أيام الاستعمار، وهي ما زالت هذه "الواجهة" في سياستها الافريقية الجديدة. وقد قيل لشيراك إن غباغبو الاشتراكي والمعارض التاريخي للرئيس الراحل بواتييه، الخليفة الذي بعد عودته الى ساحل العاج سيكون رجل الوفاق الذي يحقق الوفاق الوطني حسب اتفاق ماركسوسي لينقذ بذلك ساحل العاج، لكن غباغبو الذي عاش في باريس لاجئاً سياسياً، متحصناً بالحزب الاشتراكي اختار التصعيد، فبقي اتفاق "ماركسوسي" حبراً على ورق، صاباً بذلك الزيت على نار الأحقاد والخلافات الكامتة.
والتصعيد العسكري الذي أدى الى قصف قاعدة فرنسية يعمل جنودها في إطار قوة حفظ السلام ومقتل تسعة منهم ثم البدء بحملة تدمير ونهب واسعة لأملاك الفرنسيين، سبقها ما قالت عنه ميشال اليو ماري وزيرة الدفاع الفرنسية: شحن متواصل لجو من الكراهية والعداء لفرنسا والفرنسيين طوال الأشهر الماضية.
وأمام هذا التدهور الأمني الواسع لم يجد الحزب الاشتراكي الفرنسي، الحاضن التاريخي لغبابو وحزبه، سوى إعلان "الطلاق السياسي" معه. وتقول أوساط الحزب إن اللوبي المؤيد لغبابو والمشكل من الترويكا: ميشال روكار وهنري ايمانويلي وبيار موروا، فضل الصمت أمام هذه التطورات تأكيداً منه لسياسة المقاطعة. ويبدو أن قيادة الحزب كانت تستعد لإعلان هذه المقاطعة وتبحث عن سبب وجيه لها فجاءها "هدية" مباشرة من غباغبو ذلك أن فرنسوا هولند سكرتير عام الحزب قرر قطع هذه العلاقات بعد دخول غباغبو على خط الرهائن الفرنسيين في العراق وتقديمه طائرته الخاصة للنائب اليميني ديديه جويا، مما أدى الى اختلاط كل الأحداث والوساطات مع الخاطفين وبقاء الصحافيين الفرنسيين مخطوفين.
وبعيداً عن هذه الخلافات المشتعلة مع كامل مروحة التركيبة السياسية الفرنسية من يمين ويسار والتي أصبحت موحدة خلف شيراك فإن الأوساط الفرنسية غير الرسمية ترى أن غباغبو لم يقدم على ما أقدم عليه، من إشعال للوضع العسكري عشية انتخاب جورج بوش، لو لم يكن مصمماً على منهج ما، مما يسقط دعاوى الكلام على تسلط "الصقور" في القصر الرئاسي على الرئيس وأبرزهم زوجته سيمون غباغبو رئيسة المجموعة البرلمانية لحزب الرئيس والقادمة من عائلة ملكية في غرب افريقيا. فالرئيس العاجي وحسب هذه المصادر الفرنسية افتعل هذا التصعيد لكنه لم يتوقع أن ترد باريس عليه بهذه القوة وتهدده "بالحرم السياسي" من قبل مجلس الأمن. وتضيف هذه المصادر أن الرئيس العاجي قدم "هدية" مهمة للرئيس جورج بوش بعد انتخابه. ذلك أن فرنسا الغارقة في وحول ساحل العاج ستصبح أكثر تفهماً لغرق الولايات المتحدة الأميركية في وحول العراق. وهذا التفهم لا بد أن يقود بطبيعة الحال الى نوع من التفاهم على تسهيل مهمة كل واحد للآخر.
باريس، تشدد رسمياً أن الحل السياسي هو الحل الوحيد للأزمة في ساحل العاج، وأن الوقت لم يفت بعد، وما على الرئيس العاجي غباغبو سوى العودة الى اتفاق "ماركسوسي" بحذافيره، والذي يؤدي الى تقاسم السلطة بالوفاق بين الأطراف العاجية المتواجهة، ومع ذلك فإن الأوساط الفرنسية تضيف تساؤلات مشروعة أهمها: كيف يمكن فرض السلام في ساحل العاج على أطراف غير مستعدة بعد للتصالح والتفاهم رغم توقيعهم على اتفاق "ماركسوسي" وهل فرنسا بكل تاريخها الطويل في غرب افريقيا قادرة على لعب دور الحكم؟!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.