الاستنساخ السياسي صعب جداً لكنه ليس مستحيلاً، وفي الحالة الفلسطينية، في ظل غياب ياسر عرفات، تبدو "اللبننة" بعيدة وممنوعة، رغم كل "الاحداثيات" التي تؤدي ظاهراً إلى اضرام نار هذه "اللبننة". ولعل "تمصير" الحالة الفلسطينية، قياساً على مرحلة غياب جمال عبدالناصر عام 1970، وما جرى حتى ساعة الحسم في 15 أيار وانفراد أنور السادات بالسلطة والقرار، هو الأقرب إلى الواقع ومخاضات المستقبل!
صعوبة الاستنساخ السياسي، تكمن أساساً في اختلاف الكثير من الثوابت قبل اختلاف المتغيرات. وفي الحالتين الفلسطينية والمصرية، يبدو الفارق مهماً. فما عاشته مصر بعد غياب جمال عبدالناصر، كان صراعاً على السلطة في "دولة المؤسسات"، ومن ثم على نهج دولة ما بعد عبدالناصر، لأنه من الطبيعي ان تكون مصر هذه غير مصر عبدالناصر. وقد نجح أنور السادات باسم "شرعية" موقعه كنائب للرئيس، في ازاحة من عرفوا باسم "مراكز القوى" وإدخالهم السجن، تدعمه في ذلك، إرادة أميركية ـ أوروبية، وتمكن من قيادة مصر تحت "شرعيته" المستمدة من تكليف رسمي وشعبي نحو "الانفتاح" ومن ثم إنهاء النزاع مع إسرائيل تحت العين الساهرة لهنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي!
وفي الحالة الفلسطينية، تبدو الوقائع والتفاصيل أكثر تعقيداً، رغم ان غياب ياسر عرفات، والتحام الشعب الفلسطيني بنعشه على مثال جنازة جمال عبدالناصر ـ مع فارق المساحة والسكان ـ يؤشر إلى تشابه لا يمكن إنكاره، خصوصاً وأن دور ياسر عرفات التأسيسي في القضية الفلسطينية يقف في ساحة التاريخ وصياغة الأحداث إلى جوار قامة جمال عبدالناصر. رغم ذلك، فإن خصوصية الحالة الفلسطينية تتجاوز جميع الحالات التاريخية في العالم. فالشعب الفلسطيني ناضل عقوداً للاعتراف بوجوده كشعب، وهو يناضل يومياً مقدماً الأرواح والأرزاق بلا حساب وفي اطار اختلال غير مسبوق في موازين القوى الذاتية، والمواقف الدولية وخصوصاً الأميركية منها، في الحصول على دولة ذات حدود، وقابلة للعيش!
هذا التعقيد والفوارق لا يحول دون القياس والاستنساخ، مع التشديد على ان التوأمة الكاملة ليست النتاج المنتظر. وبداية فإن هذه التعددية الواسعة في الفصائل والحركات والتنظيمات الفلسطينية، واختلاف منشأ كل واحدة منها وتضادها في نهجها ومسارها في التحرير واقامة الدولة. إضافة إلى وقوع الحدث في قلب الانتفاضة الثانية، والخلاف حول استمراريتها بالسلاح أم بالحجارة، تجعل من "اللبننة" أمراً محتملاً. وجاءت حادثة سرادق العزاء في غزة لتزيد الحديث عن صدامات عاجلة أو آجلة، لكن من يعرف الشعب الفلسطيني يدرك جيداً ان الوحدة الوطنية الفلسطينية ليست فقط خطاً أحمر للجميع، بل هي السلاح الأول في مواجهة إسرائيل. وأي سقوط في فخ الصدامات يمنح ارييل شارون واليمينيين الإسرائيليين فرصة تاريخية للتملص من كل شيء بما في ذلك "خارطة الطريق". ومما يعزز هذا الخطر ان الادارة الأميركية الجديدة لبوش الثاني تزداد يمينية وتشدداً والتصاقاً أكثر فأكثر بالطروحات الشارونية.
من الطبيعي جداً ان تقع مناورات وتجاذبات، وحتى بعض الأحداث الدموية كالاغتيالات داخل هذا النسيج الفلسطيني المعقّد. وبذلك فإن ما عاشته مصر بين وفاة عبدالناصر و15 أيار (مايو) من صراع على السلطة، حتى اكتملت الحلقات، واستطاع السادات اطاحة "مراكز القوى"، قد لا يكون سوى نقطة في بحر ما سيعيشه الفلسطينيون خلال الفترة المقبلة. فكلما اتجهت البوصلة الفلسطينية نحو خيارات أكثر تحديداً ودقة، كلما تشكّلت قوى المعارضة ضدها، ولكن من الطبيعي أيضاً، ان تقوم تحالفات بين بعض القوى التي قد تكون متنافرة في طموحاتها ومشاريعها السياسية وأن تؤدي إلى إمساك "تحالف" بالسلطة، ومن ثم ادارة دفة النزاع مع إسرائيل. ولا شك ان أي "تحالف" مقبل، لن يتمكن من تقديم قائد يمسك بالسلطة والثورة معاً كما فعل ياسر عرفات، ذلك ان كل شيء ممكن، إلا استنساخ قيادة تاريخية بحجم ياسر عرفات، فالحالة الفلسطينية ساهمت في دعم مكانته التأسيسية، لكن من الممكن، كما حصل مع أنور السادات، ان يضع بصمته على تاريخ النزاع.
وفي "تمصير" الحالة الفلسطينية، فإن القيادات المؤهلة لخلافة عرفات وبدون الدخول في الأسماء، تبدو على استعداد كامل لاحداث قفزة تاريخية كما فعل السادات. أي الاتجاه نحو إقفال الأسوار أمام العنف المسلح، لاجبار الإسرائيليين على وقف تدمير البنى التحتية في أراضي السلطة الفلسطينية، وعدم جعل الانسحاب من غزة أولاً وأخيراً، بل خطوة مهمة على طريق تنفيذ "خارطة الطريق". وهنا تقع اشكالية أخرى، هل يمكن للطرف الذي سيستحوذ على السلطة عزل القدس الرافضة كل أرضيته، دولة على كامل الضفة الغربية وقطاع غزة في اطار حدود 4 حزيران وخالية من المستوطنات وعدم التخلي عن حق اللاجئين بالعودة. من الصعب الاجابة سلباً أو إيجاباً على هذا السؤال، لكن من الواضح ان الأمر متعلق مباشرة بما يريده الإسرائيليون. فهم إذا أرادوا المماطلة والاكتفاء بغزة وكانتونات في الضفة فإن معنى ذلك، منح الطرف الذي ابتعد عن السلطة على قاعدة الحل السياسي، دعماً غير مشروط، لاستمرار دوامة العنف التي كما يقول وزير الخارجية الفرنسي اصبحت مثل "الثقب الأسود" في الفضاء الذي يبتلع كل من يقترب من دائرته.
والسؤال المهم هو هل تستطيع كونداليزا رايس ان تلعب دور هنري كيسنجر مع مصر، الذي نجح في تحقيق الانسحاب الإسرائيلي من سيناء وتسليمها لمصر؟ وماذا تستطيع اوروبا ان تفعل غير لعب دور "الصندوق" المالي للاعمار واعادة اعمار ما تهدمه إسرائيل كما أصبح يقال في باريس وباقي العواصم الأوروبية. فأوروبا وحدها لا يمكنها ان تفعل شيئاً، وهي طالما انتظرت الانخراط الأميركي في العملية السلمية وحل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي الذي أصبحت تطلق عليه مركز النزاعات في منطقة الشرق الأوسط، والآن وبعد رحيل عرفات فإن الذريعة التي كانت تدفع باتجاه الغرق في مستنقع الدماء، قد انتهت. ولم يعد أمام الأميركيين والإسرائيليين أي ذريعة للامتناع عن الاندفاع في طريق الحل السياسي، إلا إذا كان هذا الامتناع خطة للوصول إلى "صدام الحضارات" انطلاقاً من هذا "المركز" في منطقة الشرق الأوسط.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.