جوناثان راندل، بدأ حياته جندياً شارك في الحرب العالمية الثانية، حيث كان في طليعة الوحدات التي نزلت في فرنسا، واستمرت الحرب في عروقه ودمائه، لكن بدلاً من أن تنطلق في رصاصات قاتلة، أصبحت كلمات ميدانية وواقعية وقاسية في الصحافة. فقد بدأ راندل مغامرته في الصحافة مراسلاً للصحف الأميركية ومنها مجلة "التايم"، أثناء حرب الجزائر ضد الفرنسيين، وانتقل منها الى كل الدول التي شهدت حروباً خارجية أو أهلية ومنها فيتنام وأفغانستان والعراق ولبنان.
هذا "العشق" في تغطية الحروب، هو الذي دفع مسؤولاً أميركياً كبيراً للقول "إن جوناثان راندل يحمل تابوته على ظهره، أينما يعمل". ومثلما أحب راندل الجزائر وأقام فيها، أحب لبنان وأقام فيه في حي القنطاري. وكان نتاج نشاطه الصحافي الممتد منذ أواسط الخمسينات من القرن حتى الآن العديد من الكتب عدا مقالاته التي احتكرتها "الواشنطن بوست" منذ ثلاثين سنة، من بين هذه الكتب ثلاثة خارجة من منطقة الشرق الأوسط وهي عن لبنان والأكراد وأخيراً عن أسامة بن لادن.
من هذه الكتب التي عالجت أحداثاً تعني كل واحد منا في المنطقة لأن مفاعيلها وآثارها مستمرة حتى الآن، بدأ الحديث مع جوناثان راندل. وبداية اعترف راندل أن الحديث عن التقاطع والتباعد بين الأحداث الثلاث وهي الأكراد في العراق ولبنان وأسامة بن لادن، يبدو مثيراً جداً. لكنه يضيف "التجارب والأحداث مختلفة كثيراً. فالحرب في العراق مع الأكراد كانت واضحة وهي بين حكومة مركزية، في بغداد، وقومية تريد انتزاع حقها في التمايز والاستقلال. وفي لبنان، كانت الحرب رغم كل التداخلات في القوى الخارجية والداخلية معروفة والرسائل لم تكن مشفرة كانت واضحة، حتى العمليات الانتحارية ضد الأميركيين والفرنسيين كانت واضحة: يجب أن ترحلوا من لبنان. الحرب في لبنان رغم أنها كانت حرباً أهلية بقيت حرباً كلاسيكية. لأن أطرافها وأهدافها معروفة. أما بالنسبة لأسامة بن لادن، فالأمر مختلف تماماً نحن لا نعرف حقيقة ما يريده. لقد بدأ الحرب بالقول إنه يريد إغلاق القواعد الأميركية في الخليج ثم وسع دائرة أهدافه فقال إنه يريد تحرير أرض الإسلام. والآن وصل الى فلسطين.
وجاء ايمن الظواهري ليقول أخيراً لقد ارتكبنا الكثير من الأخطاء لكن فلسطين هي المركز. لقد بقي الفلسطينيون خمسة وعشرون عاماً يسألون لماذا أفغانستان، لماذا لا يهتم بنا المحاربون في أفغانستان وهم من العرب والمسلمين. وأسامة بن لادن لم يسمع هذه النداءات".
ويعترف راندل، أن "قلة" من الأميركيين أدركت خطورة أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة. حتى عندما يحذرون من هذا الخطر الكامن. كان الآخرون وهم الأغلبية يصمون آذانهم لأنهم لا يريدون أن يسمعوا بحرب خارجية. فقد كان خروج الأميركيين من فيتنام قراراً بالانسحاب من العالم الخارجي وجاءت الحرب في أفغانستان، ولم ينخرطوا فيها مباشرة بل عملوا على تغذيتها دون الدخول مباشرة فقد كانت جزءاً من الحرب الباردة لإلحاق الهزيمة بالاتحاد السوفياتي.
ويتابع جوناثان راندل قراءته الأميركية للداخل الأميركي فيقول: "جاء 11 أيلول، فأحدث صدمة وحتى رعباً عميقاً لدى الأميركيين، فالحرب انتقلت لأول مرة الى الداخل الأميركي فأعاد كل ذلك وجهة البوصلة الأميركية الى الخارج. وأصبح الأميركيون مستعدين للعودة الى هذا الخارج وشن الحرب. لكن للأسف كان يجب أن تستمر الحرب ضد مواطن الإرهاب في أفغانستان، أي ضد أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة. لكن ما حصل هو حرف هذه الحرب باتجاه العراق. وما حدث بعد ذلك جاء معاكساً لما يريده الأميركيون. فقد سقط نظام صدام حسين وهو نظام ديكتاتوري، لكنه علماني، وولدت عشرات البؤر الإرهابية، بدلاً منه".
ويشدّد راندل على أن الرئيس جورج بوش يريد أن يتحقق الانسحاب من العراق قبل انتهاء ولايته الثانية. لكن الأمور تزداد صعوبة. فما يجري هو ارتفاع يومي في الخسائر الى درجة أن القيادة الأميركية أخذت تكذب في بغداد خسائرها. الأميركيون يخفون خسائرهم اليومية عبر تضخيم إعداد ضحايا حوادث السير، كما أنهم لا يتكلمون مطلقاً عن الخسائر بين المرتزقة مع أن أعدادهم كبيرة!
وعن إمكان نجاح بوش في إنجاز الانسحاب العسكري من العراق قبل نهاية ولايته الثانية، يقول راندل: "بوش مصرّ حالياً على إجراء الانتخابات في العراق، حتى يمكنه القول لقد أقمنا الديموقراطية في العراق ويمكننا الانسحاب. هذا يذكرني بفيتنام. إننا نعمل على تغيير لون الجثة لقد فشلنا في فيتنام. وسيفشل بوش في العراق، فكما لم يكن يوجد حل عسكري في فيتنام لا يوجد حل عسكري في العراق. هاتان الحربان في فيتنام والعراق تتشابهان في أنهما حرب ايديولوجية. الحرب في فيتنام كانت ضد الشيوعية والاتحاد السوفياتي. وهي الآن في العراق ضد الإرهاب، الخوف كان في دخول آسيا في مجازفة انهيار الدومينو. واليوم هذا الخوف موجود في العراق".
أما عن الفارق بين الحربين، فيقول راندل "الحرب في فيتنام قامت أثناء قانون الخدمة العسكرية الإلزامية. الآن لا يوجد خدمة إلزامية.
الجيش الأميركي جيش محترف. إذن لا يمكن مد الجبهات بمزيد من الجنود كما حصل في فيتنام. ومن الصعب إعادة فرض الخدمة العسكرية حتى ولو كان الكونغرس من الأغلبية الجمهورية. فالنواب خاضعون للانتخابات ولا يمكنهم الوقوف في وجه ناخبيهم الأميركيين وبخاصة الشباب الذين عاشوا حرب فيتنام، والذين زرعوا ذكرياتهم في الأجيال الأميركية التالية لا يريدون هم وأهلهم عيش تجربة السحب بالقرعة. أي محاولة لإعادة فرض الخدمة العسكرية ستكلف بوش وإدارته كثيراً، ولا أعتقد أن بوش غبي الى درجة المخاطرة والقيام بذلك".
أما الفارق الكبير بين الحربين العراقية والفيتنامية فهو "ان الحركة الشعبية الأميركية وبخاصة من الشباب المناهضة للحرب في فيتنام، لن تحصل الآن بالنسبة للعراق فالحرب تعني المحترفين في الجيش الأميركي، وعليهم تحمل نتائج التزامهم، إنها لا تعني الشباب الأميركي طالما أنهم ليسوا مجبرين على خوضها، لذلك لن تقع تظاهرات شعبية على غرار التظاهرات المعادية لحرب فيتنام".
وعن المأزق الكبير الذي تواجهه واشنطن وإدارة الرئيس جورج بوش، يعترف راندل بأن "المأزق كبير جداً خصوصاً بعد نجاح بوش، فالمرشح الديموقراطي جون كيري، كان يستطيع أن يقول هذه الحرب ليست حرباً وتعالوا ساعدوني لحلها، وهذه فرصة لجعل مشاركة الأوروبيين والعالم كله ممكنة، أما الآن فإن بوش لا يستطيع أن يقول ذلك، كل ما يمكنه فعله هو الإعلان فوراً ولدى تسلمه الرئاسة في 20 كانون الثاني: "ايها العراقيون نحن لا نريد إنشاء قواعد في العراق، نحن نريد الانسحاب فعلاً، لقد تخلينا عن طموحنا في استبدال قاعدة انجليريك في تركيا والقواعد في الخليج بقواعد في العراق". ويتابع راندل: "لقد فتحت معركة الفلوجة أعين الأميركيين، فما يحصل هو تزايد العمليات ضد القوات الأميركية وتحسن نوعيتها، واتساع دائرة عملياتها، وهي مرشحة للتزايد، ولذلك فإن أموال إعادة الإعمار وهي 18 مليار دولار مجمدة وستبقى مجمدة، وهذا كله سيزيد من معارضة العراقيي. على بوش ترك العراقيين اختيار حكومة مستقلة لتدير شؤون العراق، لقد ارتكب بوش أخطاء لا تحصى في حرف الحرب ضد الإرهاب باتجاه العراق. لقد شتت القوات الأميركية في هذه الحرب. وأصغر عسكري يعرف أن تركيز القوات على هدف معين وهو كبير بكل الأحوال عندما تتحدث عن الإرهاب و"القاعدة" واسامة بن لادن، مهم جداً لربح الحرب، ولذلك تلقت هذه الحرب ضربة قاسية جداً"، يضيف راندل: "يقوم الأميركيون حالياً بتضخيم حجم الزرقاوي الذي انضم أخيراً لاسامة بن لادن، لتشريع الحرب في العراق لدى الرأي العام الأميركي، ذلك أن حجم الزرقاوي لا يتجاوز 10% من المقاتلين كما أثبتت معركة الفلوجة".
ولا يتوقف راندل عن استخلاص الدروس من تجارب الحرب في العراق وربطها بالحرب في أفغانستان وضد الإرهاب فيقول: "الكلام على توجيه ضربة الى ايران ساذج فالحرب مستحيلة، فليس لدى الأميركيين حالياً القدرة والإمكانات لشن مثل هذه الحرب، وهي ستكون مغامرة خاسرة وفادحة الخسائر إذا ما وقعت. والكلام عن "عمليات جراحية" ضد المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية غير واقعي. فالإيرانيون تعلموا من تجربة ضرب مفاعل تموز النووي العراقي. ولذلك أنشأوا العديد من المواقع البعيدة والمنتشرة على مساحة إيران الواسعة. وهي مواقع محصنة جداً ولا يمكن تدميرها دفعة واحدة. ثم ان الإيرانيين لن يقفوا مكتوفي الأيدي، ولديهم الإمكانات لإيذاء الأميركيين في العراق وأفغانستان ومواقع أخرى عديدة، ولا ننسى أن الأميركيين قدموا خدمة كبيرة للإيرانيين فهم حرروهم من خصمين كبيرين ضدهم وهم الطالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق. ولذلك فإنهم أكثر قدرة على الحركة والحشد والضرب".
ومن العراق الى فلسطين يصف راندل كلام الرئيس بوش، بأن مركز الأزمة في النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو "دمقرطة" الفلسطينيين بالقول "إن هذا مجرد كلام. المشكلة أن بوش لم يقل أبداً كلا لشارون، ولذلك تابع سياسته في توسيع المستوطنات وبناء الجدار وضرب الفلسطينيين. ولا أعرف كيف سيتمكن أبو مازن من النجاح. طالما أن الأميركيين هم محرك الوضع وعليهم تغيير توجههم كلياً حتى يساهموا في الحل".
ويواصل راندل رسم الصورة السوداوية للوضع قائلاً "المشكلة الكبرى، أن النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، أصبح جزءاً من السياسة الداخلية الأميركية، وجورج بوش ربح الانتخابات الرئاسية بسبب تأييد الكنائس الصهيونية له، وهي أصبحت قوية جداً ومؤثرة جداً في الرأي العام الأميركي، الحل على الصعيد الأميركي الداخلي هو في عثور الديموقراطيين على مرشح يستطيع القيام بحملة انتخابية ناجحة".
ويختم راندل كلامه قائلاً: "الحقيقة لا أعرف ماذا يمكن فعله فالوضع مأسوي والحل ليس سهلاً".
وعن لبنان يقول راندل الذي عايش لسنوات بدايات الحرب: "انتهت الحرب في لبنان لكن مفاعيلها لم تنتهِ. لقد انتهت عندما توقفت الحروب داخل الطوائف وبخاصة بين الموارنة. لكن يجب الاعتراف بأن الحرب ضربت النسيج الوطني اللبناني. صحيح أن وسط بيروت يشهد حياة غنية ومختلطة. لكن ما زال الناس يتكلمون عن بيروت شرقية وبيروت غربية. ونحن وهم. لقد صعدت مع سائقي تاكسي عام 2000 واليوم لا يعرف بعضهم الجهة الثانية، عام 2000 كتبت مقالاً عن منح الحريري للطلبة، ووجدت فتاة مسيحية نالت منحة دراسية، علماً أنها في البداية لم تكن وأهلها مقتنعين بأن الحريري يعطي طلبة مسيحيين منحاً. اعتقد أن الكثير من جهل كل طرف بالطرف الآخر يساهم في هذا التمزق".
وعن القرار 1559 يقول راندل: "الجنود السوريون سينسحبون من لبنان. لكن أنت وأنا والآخرون يعرفون أن النفوذ السوري في لبنان كان دائماً وسيظل قوياً وهو سيبقى بعد الانسحاب السوري. لكن كل ذلك سيبقى معلقاً على ما يجري في دمشق نفسها. فلا أحد يعرف حتى الآن لماذا اختار السوريون التمديد للرئيس إميل لحود رغم أن لديهم عشرات المرشحين "البيادق" الذين يخدمون مصالحهم مثل الرئيس لحود".
ويختم راندل كلامه عن سوريا ولبنان: "الأميركيون يريدون تحقيق الانسحاب السوري، لكنهم غير مستعدين كما أعتقد للذهاب بعيداً الى درجة ضرب الاستقرار في سوريا، وفتح المجال أمام نظام غير علماني ونشوء مجموعات إسلامية إرهابية".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.