مشكلة أن تجري الانتخابات التشريعية في العراق في موعدها، فهذه الانتخابات الشعبية الأولى منذ أكثر من نصف قرن، لن تكون كاملة ولا شاملة ولا حتى شفافة، وهي إذا جرت على مساحة "المربع الشيعي"، فإنها لن تجري سوى هنا وهناك وتحت الضغط العسكري والخوف من نتائجها في "المثلث السني". وبذلك لن يكون المجلس التشريعي الأول في العراق منذ عقود، جامعاً لكل أطياف العراق الاجتماعية والمذهبية والعرقية، ولأن فعل السيارات المفخخة والقنابل البشرية أقوى وأعلى من كل دعاوى المشاركة في الانتخابات، من جهة، وبسبب حواجز الاحتلال الأميركي العسكرية، فضلاً عن الخوف القاتل من سجن أبو غريب وباقي المعتقلات العلنية والسرية من جهة أخرى، فإنها بالتأكيد لن تكون شفافة، والكثير من نتائجها سيكون موضع شكوك لا تنتهي ورفض مشروع. والخلاصة الطبيعية لهذه الانتخابات الناقصة، نتائج ناقصة تفتقد الكثير من المصداقية، وبالتالي فإن كل ما قام على أساس ناقص يتيح بناء ناقص التكوين. وفي هذا الإطار فإن الدستور الذي سينبثق عن هذا المجلس ويقع الاستفتاء الشعبي عليه في نهاية العام 2005، سيكون موضع سؤال عن توازنات مواده وحقيقة أهدافها. وإذا كان فقدان الإنسان ليد أو رجل، يجعله معاقاً، فكيف بهذا التمثيل العراقي الأبتر؟!
مشكلة أكبر إذا لم تجرِ هذه الانتخابات، لأن معنى ذلك استمرار تسليم العراق كتلاً اجتماعية وسياسية ومذهبية، متناحرة ومتنافسة ومفتوحة أمام كل ألسنة اللهب الخارجية والداخلية لإحراق البلاد في حروب أهلية لا تنتهي من جهة، ومنح الأميركيين فرصة تمديد الاحتلال تحت ذريعة حماية العراقيين من الفوضى والتمزق والحروب الداخلية، لأنه لا يمكن للإدارة الأميركية وحفاظاً منها على "خطابها الايديولوجي" في "دمقرطة" العراق، الانسحاب دون تنفيذ الحد الأدنى من التزامها.
والمطالبة بتأجيل الانتخابات لفترة ستة أشهر يكون الأمن خلالها قد تحسّن وتوطد أكثر من الوضع الحالي تبدو ساقطة ميدانياً. وحتى الذين وقعوا على بيان يطالب بتأجيل الانتخابات اعترفوا وهم أكثر من 68 حزباً وتنظيماً وجمعية بأنه ليس هناك ضمان بأن الأوضاع الأمنية والسياسية ستكون أفضل في الموعد المقترح البديل.
ولا تقف حدود هذا المأزق المتعدد الوجوه أمام خصوصيات الحالة العراقية، فالقوات الأميركية المحتلة أصبحت وباعتراف خبرائها وأبرزهم تشارلز هيمان تواجه حالياً "عدواً متطوّراً للغاية". وفي الوقت الذي يتطوّر فيه العراقيون في مواجهاتهم المسلحة ضد قوات الاحتلال، فإن هذه القوات "اقتربت من حدود قوتها وطاقاتها العسكرية التقليدية"، وهذه "القوات لم يبقَ لديها ما يكفي من المشاة" لتغطية احتياجاتها المتزايدة، علماً "أن النصر تصنعه قوات المشاة وهي التي تثبت، لأن الطيران يساعد على إنجازه فقط". وهذا النقص في قوات المشاة يعود إلى إلغاء الخدمة العسكرية الالزامية في الولايات المتحدة الأميركية، ولا يبدو أن الرئيس جورج بوش قادر في إطار الظروف الحالية على المغامرة بطلب إقرار قانون يعيد هذه الخدمة، ويفتح الولايات المتحدة الأميركية على حالة من "العرقنة الشعبية" على غرار "الفتنمة الشعبية"، عندما دخل الموت والخوف كل بيت أميركي.
وأمام هذه الاستحالات تبدو محاولات الهروب إقليمياً إلى الأمام، أخطر الحلول على العراق والمنطقة، فالتصريحات المتزايدة، سواء الخارجة من قلب الحكومة العراقية الموقتة حول العداء التاريخي للعرب مع الفرس الايرانيين، والذي يذكر حكماً بـ"الخطاب الصدامي" في عز معارك "قادسية صدام"، أو في محاولة اختراع "هلال شيعي" من تطوّرات "المربع الشيعي" والانتخابات التشريعية المقبلة.
ولذلك، يبدو العراق مثل "بيت العنكبوت" الذي يقع الجميع ضحايا فيه، رغم رؤيتهم وإدراكهم له ولمخاطره، بدلاً من العمل على تفكيكه عبر تشجيع المصالحة الوطنية والدفع باتجاه حالة عراقية عامة تسقط الاحتلال الذي يولد العنف يومياً، وتقود إلى التزام أميركي بعدم تحويل العراق "حاملة طائرات" تمسك بزمام هلال استراتيجي يمتد من جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة وصولاً إلى جنوب افريقيا.
ولذلك يمكن القول قياساً على قول للإمام علي بن أبي طالب: "هذه الانتخابات شر، وأشر ما فيها أنه لا بد منها".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.