غابت العلاقات الفرنسية ـ الأميركية ومستقبلها من جهة، ومنطقة الشرق الأوسط وتطوراتها من جهة أخرى، عن كلمة تهاني عيد رأس السنة التي وجهها الرئيس جاك شيراك إلى الفرنسيين، فيما طغت كارثة المد البحري "تسونامي" في آسيا من جهة، والدستور الأوروبي والاستفتاء عليه من جهة أخرى.
لكن هذا الغياب لم يخف النشاط الديبلوماسي الفرنسي للإعداد جيداً لتحويل "الولاية الثانية للرئيس جورج بوش فرصة لتقوية العلاقات بين باريس وواشنطن" كما تمنى شيراك في برقية التهنئة التي وجهها إلى بوش غداة إعادة انتخابه، كما ان هذه الديبلوماسية التي كانت قد وضعت "قطار" مبادرة أوروبية حول النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي في "محطة" الانتخابات الرئاسية الأميركية، تجد أن الفرصة سانحة لإطلاق هذا القطار خاصة وأن "الذريعة" الأميركية حول عدم انخراطها الكامل في إعادة دفع عملية السلام قد سقطت مع وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.
ولا شك في ان مسارعة أحد أعضاء إدارة الرئيس بوش بإعلان قبول الرئيس الفرنسي دعوة لزيارة واشنطن وعقد لقاء قمة مع الرئيس الأميركي مطلع هذا العام، قد أكد التوجه الجديد المشترك بين واشنطن وباريس لإعادة "الحرارة" إلى علاقتهما. ويبدو ان واشنطن حيث يبدأ بوش ولايته الثانية في العشرين من الشهر الجاري، ترغب في ان تكون القمة الفرنسية ـ الأميركية من أولى نشاطات الرئاسة الأميركية. ولذلك فإن الديبلوماسيين الأميركيين يعملون بجدّ للتوصل إلى "موعد مناسب لأجندة الرئيس شيراك". وتستعجل الديبلوماسية الأميركية لقاء القمة هذا بحيث يكون اللقاء في بروكسل في أثناء قمة الحلف الأطلسي "منتجاً"، وليس قمة غربية تكون فيها الخلافات الأميركية ـ الفرنسية "معطلة" للمشاريع الأميركية، كما حصل خلال قمة الأطلسي في تركيا في حزيران من العام الماضي، عندما طالب بوش الاتحاد الأوروبي بفتح أبوابه أمام تركيا، فردّ شيراك ببرودة وجفاء "لقد ذهب بوش بعيداً، وفي مجال ليس مجاله. لقد تدخل كما لو أشرت عليه في مسألة كيفية إدارة علاقات الولايات المتحدة الأميركية مع المكسيك".
وتعترف باريس ومعها واشنطن، بأن زيارة شيراك ولقائه مع بوش في مطلع ولايته الثانية يعني ان العلاقات الأميركية ـ الفرنسية ستعيش "شهر عسل"، وأن العلاقات الشخصية بين شيراك وبوش ستطغى عليها حرارة الصداقة. وإذا كان المسؤولون في البيت الأبيض يؤكدون "ان "الموقف الفرنسي من الحرب في العراق أصبح من الماضي"، فإن لقاء القمة سيشهد مناقشة "جدية وعميقة لملفات عديدة يبدو محورها منطقة الشرق الأوسط".
العراق وكيفية إعادة الاستقرار إليه سيكونا في صلب مباحثات القمة الأميركية ـ الفرنسية. وترى باريس ان انعقاد القمة في وقت لاحق على موعد اجراء الانتخابات التشريعية في العراق، يفتح المجال لبحث مستقبل إعادة بناء العراق، ومسألة الانسحاب الأميركي، وكيفية حصول ذلك في اطار مسار الحل السياسي وعدم تحويل جدولة الانسحاب الأميركي إلى مجال للحديث عن هزيمة أميركية لأن ذلك غير مقبول بالنسبة لفرنسا ومعها الاتحاد الأوروبي، ويبدو أن واشنطن مستعدة حسب باريس أكثر فأكثر للتوصل إلى تفاهم مع باريس ومعها الاتحاد الأوروبي حول صيغة تسمح بتوسيع دائرة عمل الأمم المتحدة خاصة بعد تصاعد العمليات العسكرية وتزايد الكلفة الباهظة للحرب والتي آخرها طلب موافقة الكونغرس على 80 مليار دولار لتغطية النفقات الحربية.
بدورها، فإن الانتخابات الرئاسية في أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، والاستعدادات الاسرائيلية لتنفيذ الانسحاب من غزة، ستسهل برأي باريس تشجيع واشنطن على الانخراط بقوة في دفع العملية السياسية للسلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وسيطالب شيراك نظيره بوش بلعب دور أساسي في دفع العملية هذه خاصة وأن اعترافاً دولياً أصبح قائماً ومن ضمنه اعتراف واشنطن بأن هذا النزاع هو "أم النزاعات" في منطقة الشرق الأوسط وأن جمود المسار السلمي سيصعّد من العنف وسيوسع من دائرته.
ولأن الرئيس جاك شيراك يضع الملف اللبناني والقرار 1559 في قلب "هموم الشرق الأوسط"، فإن الرئيس الفرنسي كما ترى باريس سيبحث مع نظيره الأميركي في كيفية متابعة تنفيذ هذا القرار، خاصة أن فترة الأشهر الستة تكون قد اقتربت من نهايتها لدى انعقاد القمة سواء في نهاية شباط، أو في مطلع آذار المقبل. كما ان قانون الانتخابات الذي على ضوئه ستجري الانتخابات التشريعية يكون قد صدر، ما يسمح "للمجتمع الدولي بمتابعة شفافية ونزاهة هذه الانتخابات بدقة أكبر"، كما تسعى باريس إلى ان تكون متابعة تنفيذ القرار 1559 من جانب الأمم المتحدة ومعها مجلس الأمن الدولي، بمعزل عن تطورات الوضع العراقي، ذلك ان باريس لا تريد أن يتعرض تنفيذ القرار 1559 لأي تسوية خارجة عن حساباتها الخاصة وأن يبقى تنفيذه في اطار ما حددته الديبلوماسية الفرنسية منذ خطاب الرئيس جاك شيراك في مجلس النواب اللبناني وهو استعادة لبنان استقلاله وسيادته على كامل أراضي الدولة اللبنانية.
ودائماً في الشرق الأوسط، فعلى الرغم من العنوان وهو ملف أسلحة الدمار الشامل، فإن باريس ترى ان المشكلة الأساس هي الملف النووي الايراني والموقف الأوروبي منه وضرورة متابعة حله في اطار اتفاق الترويكا الأوروبية مع ايران، خاصة ان واشنطن تفضل عدم التهاون مع ايران وتعتبر ان اتفاقها مع الترويكا الأوروبية مجرد مماطلة لتنفيذ خطتها بالحصول على أسلحة الدمار الشامل أي تصنيع السلاح النووي.
وتبدو باريس متحمسة لهذه القمة التي ستفتح الباب نحو تعاون أوثق وعلى أساس تفهم حقيقي لمواقف كل طرف من الطرفين لمختلف القضايا التي تتمحور معظمها في منطقة الشرق الأوسط التي أصبح أمنها كما ترى باريس ومعها الاتحاد الأوروبي من أمن فرنسا والاتحاد كله!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.