دعوة المرجعية في العراق، مصر الى التدخل لدى السنة العرب من أجل ان يشاركوا في الانتخابات التشريعية المقررة في نهاية الشهر الجاري، تعني "تعريب" المشكلة السنية العراقية بدلاً من الصمت واللامبالاة ازاء غرقها في حالة مذهبية أقل مخاطرها العداء والرفض، وسقفها "حرب أهلية" تمزق العراق.
وهذه الدعوة الصريحة للدولة المصرية بمؤسساتها القديمة والراسخة، للدفع باتجاه انجاز الاستحقاق الانتخابي في العراق، لا تمنع ادراك جميع المؤيدين من العراقيين، من مرجعية مسؤولة، وأحزاب وقوى سياسية وشرائح اجتماعية، ان هذه الانتخابات ستكون جزئية وغير كاملة وغير مكتملة التمثيل لمختلف أطياف المجتمع العراقي، وانها أيضاً لن تكون نزيهة كلياً. فهذه الانتخابات تجري تحت الاحتلال الأميركي، وللاحتلال مصلحة كبيرة في تجيير نتائج هذه الانتخابات لمصلحته، ولهذا فإن الانتخابات والمسار الكامل لهذه الخطوة هما حرب دائمة تحت الاحتلال الأميركي لتقصير مدته!
ولكن هذه الرؤية والادراك الواقعي المسبق لحال الانتخابات لا تدفع المشاركين والمرجعية التي ألقت "بعباءة شرعيتها على هؤلاء، الى التشاؤم، والحل هو في تخفيف حركة التزوير الأميركية عبر مشاركة شعبية واسعة، أساساً، والتأكيد للمقاطعين، وهم مهما بلغ حجم مقاطعتهم لن يتجاوزوا في الحسابات العددية أكثر من 15%، باعتبار ان السنة العرب يقاربون 20% من تعداد الشعب العراقي، وان طيفهم وموقفهم ومبدأ الحفاظ على موقعهم ودورهم في عراق المستقبل لن تغيب لدى صياغة الدستور العراقي من قبل المجلس التشريعي المقبل، فالمطلوب ألا يكون الدستور الجديد دستوراً طائفياً وانما دستور لكل العراقيين، لان اكتمال الشرعية الشعبية ليس في العدد ولا في النسب وانما في مبدأ اساسي هو ان الأكثرية لا يمكنها حجب أي أقلية مهما كان دورها وتأثيرها، فكيف اذا كانت هذه الأقلية هي السنةالعرب الذين صنعوا العراق الحديث بكل حلوه ومرّه؟!
وهذا الاندفاع الى درجة الانخراط النادر من طرف المرجعية في العراق، ليس في واقعه وباطنه مثل ظاهره. فإذا كان ما يبدو على السطح، هو رغبة جامحة لأخذ الشيعة دوراً يوازي حجمهم في بناء العراق الخارج من النار والدمار والرماد، فإن ما تريده، كما أبلِغت القاهرة وتأكدت هو الآتي:
أولاً ـ ان الحماس لإجراء الانتخابات التشريعية في موعدها نهاية الشهر الجاري، ليس للاستيلاء على السلطة، وامساك الشيعة بها مع الأكراد المتحصنين في "جبلهم". فهم أولاً وأخيراً لا يريدون ذلك ويعرفون جيداً، ان الالغاء يلغي مستقبل العراق الواحد والموحد والقادر على الحياة من خلال تجاوز كل أزمانه السابقة.
وان المشكلة ليست في استحقاقات مقدسة. فالانتخابات يمكن تأجيلها، لكن بشرط أن يتم ضمان الهدوء والأمن عند حلول الاستحقاق الانتخابي، وهذا غير ممكن حتى ولو قبلت كل الأطياف المشكلة للعراق، لأن لا أحد يستطيع السيطرة على قرار الزرقاوي وباقي المجموعات المرتبطة بشكل أو بآخر بقرار الحرب ضد الولايات المتحدة الأميركية بصرف النظر عن مسألة تحرير العراق أو عدم تحريره.
كذلك فإن المطلوب ضمان مشاركة المقاطعين وتحديداً السنة العرب بكل أطيافهم السياسية، وهذا ما لا يمكن ضمانه، لأنه حتى ولو قبلت اطراف فإن أطيافاً معينة وهي من قدامى النظام السابق وحزب البعث المأخوذين بمبدأ الثأر بموازاة التحرير، والأصوليين الذين يعتقدون ان الفرصة قد حانت لهم للامساك بالمجتمع العراقي وبالسلطة.
ثانياً ـ عدم سقوط العراق في الفراغ. لأن غياب الانتخابات لا بديل منه سوى هذه السباحة في الفراغ والاصطدام بكل الألغام المتناثرة المهددة لوحدة العراق. فالمشكلة لا تنحصر فقط بالسنّة العرب، وانما ايضاً بالأكراد الذين مهما أخفوا طموحهم، فهم يرغبون في الاستقلال، وعبر دولة كردية صغيرة في كردستان العراق تأسس وعد على الأرض بقيام دولة كردية توحد الشعب الكردي المشتت والممزق ظلماً.
ثالثاً ـ ان انكماش العرب السنة في "مثلث الموت" وعدم مشاركتهم في العملية السياسية، واستمرار المواجهات مع الاحتلال الأميركي، ستولد مزيداً من الاحباط، ومزيداً من القهر والأحقاد. فالعنف يولد العنف وفي ظل وضع هذا "المثلث"، فإن المسار العام يقود أهل هذا "المثلث" وتحديداً السنة العرب نحو امساك "القبضة الأصولية"، الأكثر تشدداً بهم. مما يعني سقوط الاعتدال وانتصار التطرف الذي يستولد التطرف. من يريد هذا الوضع من العراقيين ومن عرب الجوار، والجواب الطبيعي لا أحد.
والأخطر من هذا، ان استقواء القبضة الأصولية في "المثلث السني"، ستقود رياحها العاصفة باتجاه "المربع الشيعي" الى سقوط أهله في قبضة الأحزاب الدينية الشيعية الأكثر تطرفاً وأصولية، وهذه النتيجة ستكون بداية لانجراف الحالة الشيعية كلها نحو أحضان ايران. وما لم تستطع الحرب الايرانية ـ العراقية اختراقه، ستنجزه هذه الحالة الأصولية، والمرجع آية الله السيستاني الايراني الأصل هو المثال الاكبر لطموح المحافظة على الهوية العربية للشيعة العراقيين، وأيضاً وهذا مهم جداً، المحافظة على الاعتدال والمعتدلين من ديموقراطيين وليبراليين شيعة. فإذا كان السيستاني الايراني الأصل يعمل كل ذلك من أجل هوية العراق العربي، فماذا بالنسبة للعرب الآخرين؟!.
ثالثاً ـ ان هذه الانتخابات هي في اطار عملية سياسية واسعة تشمل في ما تشمل تشكيل هيئة لصياغة الدستور ووضع جدول زمني لانسحاب القوات الأميركية المرغوب أميركياً وغربياً، مع المحافظة على ماء وجه الأميركيين ليس حباً بهم، وإنما من ضمن واجبات والتزامات المشاركة في الجبهة الدولية الواسعة في الحرب ضد الارهاب.
ولأن الحل العسكري مستحيل أميركياً وعراقياً، خاصة وانه ليس لدى العرب وتحديداً مصر ودول الجوار اي مخطط ولا حتى ارادة بالمواجهة والمقاومة، فإن التعامل مع الحل السياسي يصبح هو الأمرالواقع الذي لا بديل منه سوى فتح العراق امام التطرف بكل انواعه وخاصة العنف الأسود للزرقاوي الذي احد أهدافه إشعال حرب مذهبية وأهلية عراقية!
العراق أمام خيارات صعبة بعضها ليس كاملاً ومثالياً، والبعض الآخر مدمر وقاتل. ولكن كما يرى الكثير من العراقيين الذين لم يسقطوا في مستنقع التشاؤم، عندما يغلق باب، يفتح باب آخر. وبدلاً من الشعور بالمرارة، يجب الانطلاق مرة أخرى.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.