أوروبا خائفة من أن تجرح فرنسا نفسها بنفسها، فتنزف معها، والخوف حقيقي من "لا" فرنسية شعبية للدستور الأوروبي. ففرنسا دولة مؤسّسة للاتحاد الأوروبي، وهي مع المانيا تشكّل محرك الدفع الأساسي "للقطار" الأوروبي. و"اللا" الفرنسية تعني حكماً وقوع خلل حقيقي وكبير في المحرك، ووضع القطار الأوروبي في محطة قد يطول الانتظار فيها، ويعرض هذا "القطار" لمفاجآت غير متوقعة، في فترة لم تكتمل فيها عملية قيام البناء الأوروبي الواسع نهائياً.
وحتى لا تسقط أوروبا في امتحان لا تريده، فإن قادة "النعم" الأوروبيين، يعملون متكاتفين ومتضامنين لإفشال "اللا" التي تبدو حالياً شعبية في فرنسا، إذ ان "أوروبا بحاجة لفرنسا، ولا يمكن تصوّر أوروبا بلا فرنسا".
والغريب في معسكر "اللا" الفرنسية انه يضم قوى لا يمكن تصور حجمها حتى في الكوابيس الليلية. لكن في السياسة، كل شيء ممكن. ومعسكر "اللا" يضم حالياً شيوعيين مشتتين متعلقين بحقوق العمال الفرنسيين الواسعة والمميزة، والاشتراكيين المتمردين، بقيادة لوران فابيوس رئيس الوزراء الأسبق "والابن المدلل" للرئيس الراحل فرنسوا ميتران. ويبدو ان رغبة فابيوس بالثأر من ليونيل جوسبان المرشح العاثر الحظ للرئاسة، وطموحه لانتزاع الزعامة من فرنسوا هولند والترشح للانتخابات الرئاسية دفعته لاقتحام هذا المعسكر. وإلى جانب فابيوس أصغر رئيس وزراء في تاريخ فرنسا الحديث، والذي كما يقال ولد في السياسة وفي فمه ملعقة السلطة، يقف الفاشيون الجدد، بكل طروحاتهم العنصرية، وكذلك القوميون الحالمون دائماً برفعة "القومية الفرنسية" في زمن اتحاد أوروبي يضم 25 دولة.
وحجج هذا الكوكتيل العجيب الغريب من القوى السياسية الرافضة للدستور الأوروبي انه:
يفتح أبواب فرنسا أمام العمالة الأوروبية الشرقية على مصراعيها، مما يؤدي إلى "تسونامي" يحرم العمال الفرنسيين فرصهم في العمل في زمن ترتفع فيه نسبة البطالة سنوياً، وهذه المنافسة الخطيرة تعود إلى أن أجرة اليد العاملة القادمة من أوروبا الشرقية سابقاً والمنضمة حديثاً إلى الاتحاد، أقل بست مرات عن أجرة العامل الفرنسي.
يسلم مفاتيح أوروبا لتركيا المستعجلة للانضمام إلى الاتحاد. وبطبيعته فإن هذا التسليم يعني ضمناً كسر "النادي المسيحي" مع انضمام 60 مليون مسلم تركي إلى الاتحاد.
تدمير نظام الضمان الاجتماعي المتميز في فرنسا بسبب إدخال النظام الجديد تحت المظلة الانغلو ساكسونية.
الرئيس جاك شيراك يعمل جاهداً لتغيير وجهة الرياح الشعبية في فرنسا لئلا تتعرض أوروبا لنكسة خطيرة ولذلك أعلن "ان الدستور الأوروبي الجديد هو ابن العام 1789 أي الثورة الفرنسية وفي هذا القول محاولة جادة لاستنهاض روح الثورة الفرنسية لدى الفرنسيين حتى يقترعوا بنعم تبعد الفشل عن أوروبا.
ويؤكد شيراك ومعه المؤيدون للدستور الجديد ان الدستور "ليس يميناً ولا يساراً". وهو يجمع بين احتياجات السوق الكبيرة وضرورات التوافق الاجتماعي. ويشدد الرئيس الفرنسي "على ضرورة عدم الخلط بين السياسات المحلية والدستور الأوروبي"، أي عدم المزج بين موقف الفرنسيين من حكومتهم ورغبتهم بمعاقبتها وموقفهم من الدستور. وأخيراً فإن شيراك ومعه المستشار الالماني غيرهارد شرودر شددا على استحالة إعادة التفاوض على الدستور في حال اقترع الفرنسيون ضده، ذلك ان الفشل لا يفتح الباب، وأي تفكير غير هذا هو "مجرد وهم".
طبعاً للرئيس الفرنسي جاك شيراك حسابات داخلية واسعة، في هذه الحملة كون "لا" شعبية فرنسية تضعه أمام استحقاقات مبكرة تتناول معركة الرئاسة المقبلة، كما ان الموافقة على الدستور لا تعفيه من ضرورة مواجهة "الرسالة" التي وجهها الفرنسيون له خلال الحملة والتي أجبرته على الاستعانة بالمستشار الالماني شرودر والرئيس البولوني ليحض الفرنسيين على الاقتراع لصالح الدستور. ولذلك كله فإن إجماعاً فرنسياً يؤشر إلى اقتراب انتهاء مرحلة جان بيار رافاران في رئاسة الوزراء. ويبدو ان أبرز المرشحين لخلافته هم ميشال اليو ـ ماري وزيرة الدفاع الحالية التي تمثل التقليد الجمهوري الناجح، ودومينيك دوفيلوبان وزير الداخلية الحالي والأقرب إلى قلب شيراك، والوجه الصاعد جان لويس بورلو وزير الشؤون الاجتماعية، والمفاجأة تييري بروتون وزير الاقتصاد الحالي.
وأياً كان خيار شيراك فإن أمراً واحداً يبدو مؤكداً في ظل خلط الأوراق الكبير. ان معركة رئاسة الجمهورية قد افتتحت باكراً، بانتظار نضوج المعادلات ووضوح المتغيرات!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.