"لا" الفرنسية للدُستور الأوروبي، نكسة كبيرة لكنها ليست "كارثة". "القطار" الأوروبي، يتوقف في "المحطة" الفرنسية، لكنه لن يتعطل، فالمسيرة الأوروبية حتمية وليست خاضعة لتطورات ومواقف داخلية في هذه الدولة أو تلك من أعضاء الاتحاد الأوروبي. وإذا لم تمر "نعم" الفرنسية في هذا الاستفتاء، فإنها لا بد من أن تمر وتمنح "القطار" الأوروبي، قوة دفع تعوضه عن التوقف الموقت في المحطة الفرنسية.
ومن الواضح والثابت الآن، أن استفتاء آخر لا بد أن يجري في فرنسا، وفي ظروف أفضل. فـ"لا" الكاسحة وقعت أساساً لأسباب داخلية فرنسية، وليست رفضاً للاتحاد الأوروبي الذي تشكل فرنسا أحد مؤسسيه ومع ألمانيا "محركه" القوي الذي أوصله الى ما وصل اليه الآن.
طبعاً، الفرنسيون مثلهم مثل بعض الأوروبيين في دول الاتحاد الأوروبي الذين يطلق عليهم الجزء "القديم" في مواجهة الجزء "الجديد" من دول ما كان يطلق عليها أوروبا الشرقية، والتي تبدو بولندا رأسها ومحركها حالياً.الفرنسيون قالوا "لا" في استفتاء شهد إقبالاً استثنائياً (نحو 70% من الناخبين)، للبطالة التي تتضخم نسبتها كل سنة، ولغلاء المعيشة الذي لعب "اليورو" دوراً مهماً في رفع نسبتها، و"للوحش" الليبرالي، الذي يهدد مكتسبات العمال خصوصاً في نظام الضمان الاجتماعي المتقدم على مختلف دول أوروبا.
وللتعبير عن قلق عميق من العمالة الأوروبية الشرقية الوافدة والتي تهدد بحجمها وكفاءتها ورخصها بأزمة أكبر تعمق أزمة البطالة لدى العمال الفرنسيين، وتثير ايضاً مخاوف حقيقية في القطاع الزراعي الذي عانى أصحابه حتى الآن هجوم المزارعين الأوروبيين، وأخيراً لا آخراً من وهم خطر كبير عنوانه انضمام تركيا الى الاتحاد، وهذا يهدد طبيعة هوية الاتحاد الذي يُدخل الى تركيبته العنصر الإسلامي المتشكل في أكثر من 60 مليون تركي، سيكون لهم في البرلمان الأوروبي، متى انضموا الى الاتحاد بعد عقد أو أكثر من الزمن، أعضاء في البرلمان الأوروبي أكثر من ألمانيا نفسها.
وإذا كانت كل هذه الأسباب ليست كافية لشرح "لا" الفرنسية، فإن هناك أسباباً اضافية، أبرزها وهم الذين اختاروا قلب الطاولة، التعبير عن أزمة هوية لدى الفرنسيين. فالسؤال صعب جداً لدى طرحه على أي فرنسي، هل انت أوروبي أم فرنسي؟ ولذا فإن المعادلة المطلوبة التي لم يجب عنها أي مسؤول فرنسي كما يجب، هي: كيف يمكن للفرنسي أن يكون فرنسياً وفي الوقت نفسه أوروبياً؟
أما الأزمة الحقيقية في كل ما حصل تختصر في وجود أزمة نظام حقيقية وعميقة. فالمنتصر الأكبر في هذا الاستفتاء هو اليسار واليمين المتطرف. اما اليمين الجمهوري واليسار الديموقراطي فيعانيان انقسامات تصل الى درجة التهديد بزلزال يطيح أسسهما. وربما هذا ناتج من أزمة زعامة وليدة وغياب برامج ورؤى ومشاريع مستقبلية تتضمن اجابات واقعية لما تعيشه فرنسا وما ينتظرها في العقدين المقبلين. إذ لا يكفي ان يُقال إن الاتحاد الأوروبي متى أنشئ سيكون قوة عظمى تقف الى جوار الولايات المتحدة لتنتزع منها هيمنتها الاحادية. إذ ان السؤال بالنسبة الى الفرنسي العاديّ كيف ستكون فرنسا في هذا الاتحاد وهل تبقى محركاً له تقوده مع ألمانيا وربما بولندا أم انها ستسير مع قوة الدفع كما يريد الآخرون.
لذلك تنتظر اليمين الجمهوري واليسار الديموقراطي معاً تغييرات فعلية. فالرئيس جاك شيراك الذي لم يكن مضطراً الى الدعوة الى هذا الاستفتاء عليه ان يرد سريعا على "لا" الفرنسيين. وهذا الرد يجب أن يتضمن التوازن بين اصلاحات داخلية سريعة تكون أولى خطواتها في تغيير حكومة جان بيار رافاران، من جهته وصوغ سياسة توازن بين السهر على احترام فرنسا لالتزاماتها داخل أوروبا وفي الوقت نفسه مواجهة الوضع الصعب الذي اوجدته نتيجة الاستفتاء فأدى الى وضع صعب للدفاع عن المصالح الفرنسية داخل أوروبا.
هذه الأزمة التي خلفتها "لا" الفرنسية، هي جبل الجليد الضخم الذي صدم السفينة الأوروبية، مع ذلك فإن السفينة الأوروبية ليست "تيتانيك" جديدة، لكي تغرق في بحار المشكلات الداخلية لهذه الدولة أو تلك. لكن الإنذار قويّ جداً، وقد سمعه العالم كله فكيف بالأوروبيين؟!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.