السنّة العرب في العراق، خرجوا بإرادتهم من بناء دولة ما بعد 2003، ويعودون بإرادتهم. خرجوا، فتهمشوا فاحبطوا، فانفجروا غضباً في مواجهات مسلحة، اختلط فيها حابل الإرهاب بنابل المقاومة، وبمقاطعة صناديق الاقتراع على أساس أن لا أمل من هذه الانتخابات المرسومة نتائجها مسبقاً في ظل الاحتلال الأميركي، أو لوهم بأنهم أقلية لا يمكنها التأثير أو التغيير أمام الأغلبية الشيعية المطلقة.
ولكن أمام استمرار تقدم "محدلة" بناء مؤسسات الدولة الجديدة تحت رعاية أميركية كاملة، بمشاركة سنية تحفظ وضعهم وتأثيرهم ونفوذهم المتناسب مع حجمهم ومكانتهم في العراق، أو مع بقاء مقاطعتهم وما ينتج عن ذلك من تهميشهم ونمنمة وجودهم السياسي، أصبح مطلوباً موقف جديد حتى لا تتكرر بصيغة معكوسة حالة العام 1920 مع الشيعة.
ويبدو من خلال تصعيد العنف الدامي والأسود، أن مساراً جديداً بدأ يتحرك ببطء ولكن بثبات نحو خروج السنة العرب في العراق، من الزاوية التي انحشروا أو حشروا فيها، لأسباب متعددة منها الخلط بين النظام السابق والهوية السنية له، علماً أن نظام صدام حسين لم تكن له هوية سوى المحافظة على نفسه، ولذلك ساوى بالاغتيال والقمع والاعدام بين كل معارضيه من العراقيين، بما فيهم أبناء عائلته الضيقة، كما حصل مع زوجي ابنتي صدام حسين.
وفي قلب الحرب الواسعة التي تجري فيها عدة حروب تخدم كل واحدة فيها هدفاً نقيضاً للآخر، تبدو عملية جر العراق الى اتون الحرب الأهلية الشاملة ناشطة بقوة. ويعمل "حمالو" الحطب في هذه الحرب بقوة وتصميم وفاعلية لإضرامها، وتحويل العراق الى ساحة من النار مفتوحة على جميع العراقيين من جهة وعلى محيطها الاقليمي من جهة أخرى. ويستثمر هؤلاء كل محاولاتهم السابقة طوال سنتين والتي فشلت بسبب خصوصة تكوين العراق الاجتماعي القائم على علاقات عشائرية يتماذج فيها داخل العشيرة الواحدة الانتماء المذهبي السني والشيعي. ولعل نداءات وتوجيهات الزرقاوي رمز هذا الإرهاب وليس كله لضرب الشيعة بعد تكفيرهم يمثل رأس الحربة لإشعال هذه الحرب، التي تستخدم مبادئ الحرب الطائفية في لبنان وآلياتها، ومن ذلك، ايقاع مجزرة في جامع شيعي ومن ثم اعدام مجموعات سنية، بحيث يبدو الفعل وردة الفعل، تنفيساً لاحتقان مذهبي يتشكل داخل العراق. والهدف من هذه المجاز المبرمجة التي تفتعلها يد واحدة إحداث فرز مذهبي يقود مباشرة الى فرز جغرافي وسكاني عبر هجرات الخوف أو التهجير بالقوة.
والواقع أن "العرقنة" التي تشكل "اللبننة" جزءاً منها وليس كلها، ما كانت لتتشكل وتنمو لولا وقوع الخلط منذ بداية الحرب على العراق، ولدى العراقيين بين التحرير والاحتلال بيد الجيش الأميركي ـ ومن ذلك وهو الأخطر، انفتاح الساحة العراقية على كل أطياف التطرف الإسلامي الذي نما في أفغانستان وتفرع على يد الأفغان العرب وغيرهم.
وفي حين يريد العراقيون استعادة العراق، حريته وسيادته واستقلاله ووحدة أراضيه، وبالتالي تحقيق الإنجاز الكبير وهو انسحاب القوات الأميركية، فإن هذه المجموعات الإرهابية تريد تأخير هذا الانسحاب الى أجل غير مسمى، لاستخدام العراق ساحة للمواجهة مع الأميركيين ولذلك تعتبر أن إشعال الحرب الأهلية، يزيد من مشاكل الأميركيين ومشاغلهم ويحول دون انسحابهم.
ولا شك أن نتائج الانتخابات التشريعية أحدثت هزة عميقة لدى السنّة العرب، فقد أدركوا أن "القطار" قد انطلق، وأن مقاطعتهم سواء كانت بإرادتهم أو كرهاً منهم، قد أفقدتهم تمثيلهم، ثم إن الشيعة العرب الذين أقبلوا على صناديق الاقتراع لا يشكلون أغلبية مطلقة، تؤدي الى تحجيم تمثيل السنّة العرب. ولذلك يتم الآن الإعداد لمرحلة صياغة الدستور العراقي الجديد الذي إن لم يشاركوا بفاعلية في صياغته، سيفقدون مواقعهم لعقود طويلة. وأمام هذا الوضع الصعب، يتشكل مسار جديد يبشر من جهة بمحاولة جدية لوأد الحرب الأهلية، ومن جهة أخرى بانتهاء المقاطعة والمشاركة بالبناء حتى لو بقيت جزر محدودة من الرفض تحت شعار رفض الاحتلال الأميركي.
وبداية صدرت فتوى من 65 عالماً من علماء السنة وكبار أئمة المساجد في العراق في مطلع نيسان (ابريل) الماضي بجواز الانضمام الى صفوف الجيش العراقي والشرطة بعد أن كان يطلق على "الحرس الوطني" لقب "الحرس الوثني" وجاء في الفتوى: "إنه لأجل الحفاظ على أرواح المواطنين وممتلكاتهم وأعراضهم ولأن الجيش والشرطة صمام الأمان، وإنه جيش الأمة فإننا ندعو أبناء شعبنا الى الدخول في هذا الجيش والشرطة".
وفي مطلع أيار (مايو) من الشهر الماضي أعلن حارث العبيدي عضو "هيئة علماء المسلمين" رفض تنفيذ العمليات التي تؤدي الى قتل عراقيين ومعارضة استهداف المدنيين أياً تكن الظروف والأسباب.
وجاء المؤتمر الذي ضم ألف شخصية سنية من مختلف الأحزاب والحركات السنية والإسلاميين والعلمانيين وضباط الجيش والذي أعلن عنه رئيس الوقف السني عدنان الدليمي، ليؤكد هذا التوجه. ويهدف هذا المؤتمر الى الدفع باتجاه مشاركة حقيقية في صياغة الدستور. وقد أعلن همام حمودي رئيس اللجنة البرلمانية المكلفة بالدستور أنه من المرجح إجراء انتخابات جزئية ضمن المحافظات السنية لاختيار ممثليها الى اللجنة.
وفي هذه الأثناء، يبدو واضحاً أن عملية بناء الجيش العراقي الجديد تسير قدماً رغم كل العمليات الإرهابية ضده وضد المدنيين، وسواء كان الإعلان عن أن "عملية البرق" التي بدأت في بغداد وستمتد بعد أسبوعين الى كل العراق تشمل فعلاً أربعين ألف جندي عراقي، أو كان الأمر مبالغة سياسية، فإنه لم يعد ممكناً تجاهل عملية بناء هذا الجيش، ولا شك أن الاتجاه نحو اعتبار أن هذه العمليات وغيرها من حزب المدنيين تصب في تشويه عمل المقاومة وتبلور موقفاً معادياً لها في الشارع العراقي، كما أعلن حارث العبيدي، يشكل خطوة متقدمة على طريق الفصل بين المقاومة والإرهاب والذي لا بد من محاصرته وضربه لأن في ذلك إعادة الشرعية للمقاومة عراقياً ودولياً من جهة ووأد محاولات إشعال الحرب الأهلية من جهة ثانية.
ما جرى ويجري حتى الآن، هو بداية ضرورية لعودة السنّة العرب الى موقعهم وعودة العراق الجديد الذي مهما قيل إنه يتشكل في ظل الاحتلال، الى السنّة العرب، ولا شك أن أحداث الأعوام الدامية من الاحتلال، قد أكدت للجميع أنه لا يمكن لأي طرف مهما بلغ في القوة أن يلغي طرفاً آخر مهما كان ضعيفاً لأن العراق يكون من الجميع والى الجميع أو لا يكون!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.