لم يعد ما يحصل في شوارع المدن الفرنسية، مشكلة "أحزمة" من الضواحي المتخمة بالمشاكل فقط. أصبحت بعد أكثر من عشرة أيام من الشغب في الشوارع، "حريقاً" في داخل كل منزل فرنسي. فالنار التي بدأت محدودة، وحتى مثل مثيلاتها من الليالي العادية لشوارع الضواحي الباريسية، تمددت واضطرمت لتطال الأمن الوطني على فرنسا كلها، ولتطرح سؤالاً أساسياً وكبيراً أمام كل فرنسي: الى أين نحن ذاهبون، في ظل أزمة حقيقية، ومشكلة أوروبية واقعية؟
الحرائق الواسعة التي طالت السيارات والمكتبات وصالات الرياضة، حتى وصلت الى اطلاق نار على الشرطة، ليست من فعل المهاجرين غير الشرعيين وحدهم، بل هي أساساً من فعل الجيل الثالث للمهاجرين من العرب الذين يعرفون باسم "البور" والمسلمين القادمين خاصة من إفريقيا. وهذا "الشغب" الذي بدأ محدوداً وتحوّل الى "تسونامي" من العنف الناري، ليس بأيّ مقياس من المقاييس "ثورة". فللثورة أسباب أكثر عمقاً: وللثورة برنامج وقيادة واستراتيجية وتكتيك. وهذا لا تعرفه هذه المجموعات التي تجتاح الشوارع مستخدمة الهواتف النقالة المسروقة بمعظمها، للتحرك والانتشار. فهي كانت ولا تزال تفتقد التشكيل المنظم المؤطر والموجّه. وهي أيضاً ليست "انتفاضة حرامية" رغم تكافل افرادها وتضامنهم، واثارتهم للخوف والقلق من الحاضر وعلى المستقبل. فالشباب الذين هجروا منازلهم ليخوضوا ما يشبه معارك الشوارع من كرّ وفرّ، يعيشون وسط خزانات من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والعائلية، وبعض هذه المشاكل قديمة قدم تعقيدات ومآسي الهجرة الأولى في زمن الاستعمار!
ما يحصل الآن، هو انفجار "بركاني" كان يغلي منذ سنوات وأعطى اشارات أحياناً قوية منذ العام 1981 عندما وصل اليسار الى السلطة مع انتخاب فرنسوا ميتران رئيساً للجمهورية. فقد تخلف هذا اليسار الذي قدّم وعوداً زهرية لهؤلاء الشباب المهاجرين بالعمل لحلّ مشكلاتهم، ثم نام على حرير وعوده وشروط السلطة وممارساتها! مما رفع معدل الغليان. ولذا فإن جردة بسيطة ليوميات ضواحي باريس تؤكد ذلك. فالمعدل اليومي لإحراق السيارات في ضاحية سان ـ دوني خلال الأشهر العشرة الماضية يراوح بين عشرين وأربعين سيارة!. وطوال السنوات الأخيرة حسب التصريحات الرسمية، تحولت احياء وأحياناً ضواحٍ كاملة، مناطق "حساسة". وترجمة هذا التعبير "الحساس جداً"، انها مناطق لا يدخلها رجال الأمن، خوفاً من التعرض للاعتداءات التي بلغت ضدهم رسمياً خلال الأشهر العشرة الماضية أيضاً 3832 اعتداء!.
وقلب هذه المشكلة هو، بطالة مستشرية تصل في بعض الضواحي الى 57% مقابل 11% بالنسبة لباقي الفرنسيين. مما حولت جيلاً بكامله على مثال "الحائطيين" في الجزائر. وقد أنتج ذلك كله انخراطاً لشرائح واسعة من هؤلاء الشباب في عصابات منظمة لترويج المخدرات والسرقات وفتح أيضاً أبواباً خلفية، للمنظمات والمجموعات الاسلامية المنظمة والقادمة من الجزائر والمغرب لضم اعداد متزايدة منهم، وتصديرهم أحياناً الى العراق، هذا دون الحديث عن الانغلاق الذي تحدثه فيهم فيرفضون المجتمع الفرنسي الذي يعيشون فيه لينعزلوا في غياهب التشدد المسلكي والانغلاق الفكري والسياسي!
ومن الواضح جداً، ان كل ذلك، والمضاف اليه رفض حقيقي من المجتمع الفرنسي وحتى من سوق العمل لشرائح واسعة من هؤلاء الشباب إما لأسباب تاريخية تعود في أساسها الى مواقف عنصرية خارجة من الممارسات الاستعمارية، وإما لأسباب ناشئة من اليوميات العادية في الشارع والمدرسة وحقول العمل، قد انتج رفضاً علنياً للاندماج في هذا المجتمع الفرنسي، علماً أن كل مهاجر شرعي أو غير شرعي، كما يرى الفرنسي، ان فرنسا ليست فقط مجرد مكان للعيش والعمل والكسب المادي، بل هي مجتمع له شروطه وواجباته وتقاليده التي يجب احترامها اذا لم يرغب هذا المهاجر اخذها والعملَ بها!
ولا شك في ان انفجار هذا البركان الذي لم يكن منذ اكثر من 15 سنة خامداً، لم يكن ليحصل حالياً بهذه القوة التدميرية لولا التوقيت السيئ له. ذلك ان التنافس الحاد والمبكّر على خلفية الانتخابات الرئاسية من قوى وأحزاب سياسية ضعيفة ومشتتة وفقيرة، من الرجال إلى البرامج مروراً بالأفكار، ولعل هذا الوضع بلغ اعلى درجاته في المعركة الدائرة بين دومينيك دو فيلبان رئيس الوزراء ونيكولا ساركوزي وزير الداخلية وعلى وقع شعور متزايد بأن الرئيس جاك شيراك لن يخلف نفسه، وان الحزب الاشتراكي مجرد اطلال يبحث عن منقذ له. وقد قادت هذه المعركة الى ان ينصب ساركوزي فخاً لدوفيلبان والآخرين من خصومه، عبر استعراضاته الاعلامية في الضواحي والتي كان من بينها تصريحات جارحة لكل الشباب المجروحين أصلاً من أوضاعهم وتهميشهم والتي كان قمتها وصفهم "بالحثالة" الذين يجب "تنظيف" الشوارع منهم، فكان ان وقع بنفسه في هذا الفخ جارّاً معه فرنسا!
والاخطر من هذا كله، هو نجاح خطاب اليمين المتطرف، وتصاعد شعبيته ذلك ان كل سيارة تحرق، وكل مكتبة تدمر وكل شرطي يجرح هو صوت اضافي لشعبيته، وإذا كان جان ماري لوبن قد دخل الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في المرة الأخيرة، نتيجة لأخطاء ليونيل جوسبان الاشتراكي في ادارة معركته، فإن رصيده للانتخابات الرئاسية المقبلة يرتفع ويجعل من تقدمه نتيجة طبيعية، ومن هنا خطورة هذا الوضع وخاصة اذا نجح البعض وخاصة هذا اليمين المتطرف في دمج العنف الناري الحالي مع مسار التنظيمات الإسلامية الأصولية القائمة في الجزائر والمغرب!
الأولوية المطلقة الآن هي إعادة الأمن والنظام لأن الجمهورية يجب ان تكون أقوى من هؤلاء الذين يزرعون العنف والرعب، كما قال الرئيس جاك شيراك. لكن السؤال المقابل لهذه المهمة هو: ما هو الثمن الذي ستدفعه فرنسا من جهة والمهاجرون الشرعيون وخاصة هذا الجيل الضائع منهم؟!
لا شك في ان التشدد سيلحق بقوانين الجمهورية، والتصلب في تنفيذ الاجراءات والأحكام سيكون سيد الموقف وبذلك فإن التقاليد الديموقراطية للجمهورية، التي تعيشها فرنسا في مسار متوازن وقوي منذ الثورة الفرنسية، قد يتعرض للاهتزاز إذ لكل شيء ثمنه وخاصة عندما تكون صون الأمن الوطني كله وحمايته هو الهدف، وكيفية التوفيق بين هذا الهدف والمحافظة على تقاليد الجمهورية سيكون الهمّ الكبير أمام الرئيس جاك شيراك ومختلف تشكيلات السلطة والحياة السياسية لئلا يتحول الشدخ القديم خط زلازل دائما!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.