تعرت صحيفة "الموند" وغيّرت ثوبها. بعد الأسود والأبيض الذي ارتدته وتمخترت به طوال أكثر من ستين عاماً، تلوّنت وتبرجت لتصبح صحيفة مثل باقي صحف فرنسا والعالم. و"الموند" دخلت يوميات فرنسا، حتى أصبحت ملازمة للفرنسي مثل "الباغيت" وقالب الجبنة وزجاجة النبيذ. لن تخرج "الموند" من الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في فرنسا والعالم، ولكن الصحيفة التي كنا نعرفها، لم تعد نفسها. ربما هذا الانتقال طبيعي لأن الزمن تغيّر والعالم أصبح "قرية كبيرة"، بعدما ألغى الإنترنت المسافات وخلط الشعوب، بحيث تحولت ألوان الأجناس البشرية الى قوس قزح ولم يعد ممكناً أن تبقى "الموند" أسيرة للأسود والأبيض. مثلما أن جان ماري ـ كولومباني ابن هذا العصر لا يمكن أن يشبه المؤسس هوبير بوف ـ ميري حتى ولو كانا من أسرة واحدة هي "الموند" .
قاومت ونجحت طوال ستين عاماً ونيّف، ثم استسلمت ودخلت في الصف. هذه هي صحيفة "الموند" الفرنسية. أسسها هوبير بوف ـ ماري، فور انتهاء الحرب العالمية الثانية. الجنرال شارل ديغول كان وراء قرار إصدارها. كان يريد صحيفة جادة تكون "خريطة طريق" للكادرات الفرنسية. وطوال نصف قرن، بقيت "الموند" جريدة مسائية، تصدر بعد الظهر، ولأنها كانت تأتي بعد كل صحف الصباح الغنية بالاخبار المتتابعة، فإن "الموند" كانت تركّز على التحاليل الصحافية العميقة التي يكتبها مراسلون ومبعوثون من مختلف عواصم الأحداث خاصة الساخنة منها.
وطوال ستين عاماً، كان لصحيفة "الموند" شخصية متميّزة لم يعرف عالم الصحافة اليومية المكتوبة مثيلاً لها. فقد كانت تصدر من دون أي صورة. فقط كاريكاتور مميّز في الصفحة الأولى، وكان الكاريكاتور في معظم الحالات، وسواء كان يتناول حدثاً فرنسياً داخلياً أو حدثاً دولياً، حاداً وقاسياً ومباشراً، لا يترك مجالاً للمصالحة. ومنذ تولى الفنان "بلانتو" هذه المهمة، نجح في خلق العديد من الشخصيات الموازية للمسؤولين الفرنسيين مثل الرئيس الراحل فرنسوا ميتران، والرئيس الحالي جاك شيراك. وعلى الرغم من أن التعليق السياسي كان في الصفحات الداخلية ومع مقالات مطوّلة لشخصيات دولية أو ثقافية أو مسؤولة فإنه كان يُقرأ بعناية شديدة في العواصم العالمية، لكونه يعكس بعمق وقوة الموقف الفرنسي كما تراه الصفوة الناشطة من مطبخ السياسة أو الإدارة الفرنسية. ونادراً ما اعتمدت "الموند" صيغة الفضائح السياسية بل ركّزت على كشف حقيقي "لأسرار" فرنسية ودولية. وكانت هذه الأسرار متى كشفت تتحول ال خبطات صحافية تبقى آثارها وانعكاساتها ومفاعيلها لأسابيع لا بل أحياناً لأشهر. ومَنْ مِنَ الفرنسيين لا يتذكر إغراق سفينة البيئويين، وكشف "الموند" أن الرئيس فرنسوا ميتران كان وراء الأمر بإغراقها على يد مجموعة تابعة للمخابرات الخارجية؟!
ولم تتميّز "الموند" بجانبها السياسي. فقد كانت صفحاتها الثقافية والتي تحوّلت الى ملحق ثقافي مع الوقت، مرجعاً للمثقفين والقراء. وكان الكتاب الذي تنوّه إليه "الموند" يتحول الى "بيست سيلرز" فوراً! كذلك في السينما والمعارض. وقد وقفت "الموند" طوال عقود وراء التحولات الفكرية والفنية والسينمائية الجادة والجديدة، تدعمها وتغذيها وتشجع أصحابها.
اليوم، أصبحت "الموند" صحيفة مسائية تنافس في صورها وألوانها صحف الصباح، وبدلاً من الكاريكاتور الذي يتصدّر الصفحة الأولى أصبحت الصورة الملونة هي الحدث. وصفحة الرأي الذي تضم التعليق انتقلت الى الصفحة الثانية. والحدث اليومي الى الصفحة الثالثة. حتى الأسود على الأبيض القديم اكتسب بياضاً تغذيه ألوان الصور والإعلانات التجارية.
الانتقال من صفحة الى صفحة يكاد يكون انتقالاً من طبقة الى أخرى في المبنى إياه. هو تغيير واسع في الديكور. وهذا التغيير فرض كما يبدو من العدد الأول، تغييراً واضحاً يذهب الى السهولة في الأسلوب. فالصحيفة المتجددة تريد كسب فئات جديدة من القراء، بعد أن فقدت نسبة مهمة من مبيعاتها. حتى الآن لا يمكن الذهاب بعيداً في تقدير احتمالات نجاح أسلوب الصحيفة الجديد في التعاطي مع الأخبار والأحداث. لكن صحافيين قُدامى من "الموند" تقاعدوا أو خرجوا منها، أبدوا ألمهم للأسلوب الجديد في تناول الأحداث، وذلك مقارنة بالأسلوب السابق المميّز الذي يمضي الصحافي سنوات حتى يمتلكه.
لا أحد ينكر أن صحافة القرن الحادي والعشرين لا بد أن تكون مختلفة عن صحافة القرن العشرين، فلكل زمن أدواته وقواعده وشروطه ورجاله. المهم ألا تكون محاولة جان ـ ماري كولومباني لتحديث "الموند" ومعالجة مشاكلها المادية خطوة الى الوراء تزيد مصاعبها بعد أن فقدت خصوصيتها ونكهتها!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.