قد لا يكون مرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة خطيراً. لكن من المؤكد انه جدي. إذ هي المرة الأولى التي يعالج فيها رئيس جزائري في فرنسا وتحديداً في المستشفى العسكري فقد سبق وأن مرض الرئيس الشاذلي بن جديد وعولج في الجزائر، وكذلك الرئيس الأمين زروال الذي عولج في سويسرا. طبعاً العلاقات الفرنسية ـ الجزائرية الآن ليست كما كانت قبل سنوات وخاصة في زمن "العشرية السوداء"، لكن رغم كل مؤشرات التطور والتحسن، بين باريس والجزائر، فإن الذاكرة الشعبية خاصة الجزائرية ما زالت مثقلة بالوقائع الدامية والقاهرة، ولعل استمرار النقاش علناً حول ضرورة إعلان فرنسا لمسؤوليتها التاريخية وعدم الإصرار على "تزييف التاريخ" لما حصل في الجزائر يؤكد ذلك.
لا شك في أن أسوأ ما في مرض الرئيس بوتفليقة توقيته الصعب والدقيق. فهذا المرض ومهما بلغت درجة أهميته أو حتى خطورته يأتي في وقت تراوح فيه عملية تنفيذ ميثاق المصالحة الوطنية الذي وافق أكثر من 97 في المئة من الشعب الجزائري عليه. وهذه المراوحة تعود في أسبابها إلى انقسامات واضحة داخل السلطة وفي الأحزاب الناشطة، كما هي الحال داخل "جبهة الانقاذ الاسلامية"، بحيث إن الضغوط على الرئيس الجزائري لم تتوقف اطلاقاً.
كذلك يأتي هذا المرض في وقت يعمل فيه لتنفيذ خطة اقتصادية طموحة تقدر كلفتها بستين مليار دولار تقوم على طفرة غير مسبوقة في أسعار النفط، وفي ظل خلافات حادة مع رئيس الوزراء أويحيى، وعدم اكتمال مسار اخراج السلطة في الجزائر من اسر الثكنات، خاصة وأن ابعاد الرجال الاقدر داخل الأمن وابرزهم الجنرالان "مدين" واسماعيل العماري لم يتم بعد.
وحتى إعلان مرض بوتفليقة، كان الرأي السائد في الجزائر، ان الاستفتاء حول المصالحة جزء من مسار ثابت يؤدي إلى تعديل الدستور يمنح الرئيس الجزائري على أساسه صلاحيات اضافية، وأن يخلف بوتفليقة نفسه بنفسه عبر صناديق الاقتراع المباشرة والشفافة هذه المرة بدلاً من أن يأتي إلى قصر المرادية بعد اجتماعات سرية لضباط المؤسسة العسكرية الجزائرية كما حصل طوال العقود السابقة من استقلال الجزائر.
الآن، وقبل أن يقول بوتفليقة كلمته حول مرضه وقدراته اشتعلت حرب الخلافة، وكأنها واقعة غداً مع أن ولاية الرئيس ما زالت في بداياتها والانتخابات الرئاسية موعدها في العام 2009. ورغم أن الاتجاه منذ فترة يتعزز نحو تغيير بوتفليقة لرئيس وزرائه أويحيى، فإن طرح اسم شكيب خليل الليبرالي لخلافته، أقحم في بورصة الخلافة.
أمام هذا الوضع المعقد، تبدو عودة الرئيس بوتفليقة في قصر الورادية في الجزائر ملحة وأكثر من ضرورية، لدفع عملية المصالحة استناداً إلى الميثاق المصادق عليه شعبيا نحو التطبيق الكامل يتطلب مواكبة "اب" هذا الميثاق لما لوزنه المعنوي ومعرفته الدقيقة بالتوازنات الداخلية وكيفية تجاوز الحواجز وإزالة الألغام. كما أن هذه العودة تؤدي إلى حد كبير لتراجع علني لحرب الخلافة وان لن تلقيها داخل قصور ومكاتب السلطة. فالجزائر في حاجة بعد "العشرية السوداء" الى عشرية كاملة من الهدوء والاستقرار واستعادة كاملة للحوار العقلاني والمنتج بين احزاب وقوى المجتمع الجزائري من جهة وبين أجنحة السلطة ومن ضمنها المؤسسة العسكرية التي مهما قيل عن تراجع حضورها في صناعة القرارات إلا انها تبقى حاضرة في الحياة السياسية الجزائرية!
إلى جانب هذا الوضع الجزائري الداخلي المعقد، الذي يتطلب حضوراً ومواكبة ومشاركة مباشرة من الرئيس بوتفليقة، فإن تطور العلاقات مع المغرب، سواء على طريق حل نزاع الصحراء الغربية أو لتطبيع العلاقات بعيداً عن استمرار هذا النزاع، يتطلبان أيضاً استمرار بوتفليقة نشيطاً في الرئاسة، لأن ما وصلت إليه العلاقة الشخصية بينه وبين العاهل المغربي الملك محمد السادس لا بد أن يساهم في نجاح مسار التفاهم لما للعلاقات الشخصية عادة ادراك بين الزعماء من إنعكاسات ايجابية أو سلبية على صياغة القرارات والمبادرات.
طوال عقود تمتد من بدايات الحرب الباردة وما بعدها حكم العالم وإداره رؤساء وزعماء مرضى. بعضهم حكم وحمل سر مرضه إلى القبر، وبعضهم سقطت أسرار مرضه وبقي يحكم، واللائحة طويلة جداً تضم ليونيد بريجينيف وجورج بومبيدو والحبيب بورقيبة وفرنسوا ميتران والرئيس بوتفليقة قادر الآن على مواجهة قدره كما يفعل الرئيس جاك شيراك الذي فاجأه المرض.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.