ليس الرئيس جاك شيراك من الزعماء الذين يستخدمون "التعابير الرنانة" ستاراً للحدث أو للمتوقع من الحدث.
وهو عندما قال متعمداً أمام عدد من الصحافيين اللبنانيين في قصر الاليزيه، اثناء استقبالات بداية العام 2006، "ان الوضع خطير جداً ويجب الانتباه كثيراً"، كان يعني ما يقول.
ذلك ان شيراك يبني مواقفه على معرفته الدقيقة بالوضع اللبناني، وعلى معرفته بالتفاصيل الصغيرة لنسيج الوضع العربي كله ومواقف قياداته وزعمائه. فقد تحولت باريس نتيجة لتعلق شيراك العميق بصياغة السياسة الخارجية لبلاده الدولية عامة وفي الشرق الأوسط خاصة، إلى عاصمة لهذا الشرق الأوسط الذي تطرح يومياته أسئلة معقدة لا تحصى، منتظرة اجابات سهلة، الكثيرُ منها كما يبدو شبه مستحيل.
ومع أن لبنان يعيش منذ 14 شباط، تاريخ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، في دائرة الخطر المتواصل والدليل سلسلة الاغتيالات التي طاولت عدداً من أفضل "أبناء" 14 آذار والتي يبدو أن "لوائح الموت" لم تضع نقطة على سطر نهايتها، فإن تحذير الرئيس الفرنسي، في هذا الوقت بالتحديد، يعود إلى كونه يعرف أن "ربع الساعة" الأخير يحمل دوماً مخاطر أكثر، ومفاجآت ذات دويّ أكبر، لانه يؤشر دائماً إلى بداية الخروج من "عنق الزجاجة". ولا شك أن الرئيس شيراك الذي يتولى بنفسه إجراء اتصالات يومية مع الزعماء والمسؤولين العرب المعنيين بالوضع اللبناني ـ السوري، وخصوصا في الرياض والقاهرة ومع رئيس كتلة "المستقبل" النائب سعد الحريري، إضافة إلى واشنطن منذ قمة النورماندي في 6 حزيران من العام 2004 التي جمعت بينه وبين الرئيس جورج بوش، قد وضع يده الخبيرة على نبْض هذا الخطر.
وترى أوساط مطلعة عدة في باريس، وخصوصاً بعد لقاء القمة بين الرئيسين الفرنسي والمصري، "أن الأزمة الكبيرة يرافقها إحراج أكبر"، ذلك انه يجب العثور على "آلية" واقعية ومنتجة لنجاح مساعٍ تتناول قضايا ثلاث ملحة ترتبط كل واحدة منها بالأخرى، وفي الوقت نفسه تتناقض واحدة مع الأخرى لأسباب ذاتية وأحياناً موضوعية، وهذه القضايا هي التي تتكثف مختلف المساعي العربية والدولية بهدف إنجازها:
ضرورة تعاون دمشق مع التحقيق الدولي، لأن ذلك في نصوص قرارات دولية تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ولذا لا يمكن لدمشق "سوى التعاون مع لجنة التحقيق بمرونة وجدية". والمشكلة أن دمشق التي ماطلت حتى اللحظة الأخيرة قبل ان تسمح باستجواب الضبّاط الخمسة في يينا، تتحصّن بـ"مبدأ السيادة" لمنع لقاء لجنة التحقيق مع الرئيس بشار الأسد.
من هنا، فإن تمكن القادة العرب من إقناع دمشق بحل هذه المشكلة، إضافة إلى "تحمّل" ملاحقة أي مسؤول مشتبه به في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، يتطلب خروجاً سورياً من أسر الدائرة المغلقة التي وضع الأسد نفسه فيها عندما أكد في مقابلته مع "درشبيغل" الألمانية انه "لا يوجد مسؤول سوري يقوم بعمل لم يوافق عليه".
الحفاظ على الاستقرار في لبنان وسوريا معاً. وهنا فإن تشكيل المجتمع الدولي "مظلة" لحماية لبنان عبر القرارات المتلاحقة، يتم اختراقها من تحت وليس من فوق. ذلك أن التفجيرات وجرائم الاغتيال هي التي تهدد مسار الاستقلال وتزرع الخوف، خصوصاً متى تم ربطها بإشاعات عن "صفقات" مع واشنطن تمتد من العراق إلى فلسطين.
خدام وجبهة معارضة واسعة
وفي الوقت نفسه فإن الشعور المتزايد لدى النظام في دمشق بأنه "مستهدف" على الرغم من كل "التطمينات" المعطاة له بأن المستهدف هو "سلوكه" فقط، يجعله في موضع "المحاصر" الذي بيده "رهينة ثمينة" هي "استقرار المنطقة وعدم تحويل سوريا إلى ساحة واسعة لتدريب الإرهاب الأصولي وتأهيله ونشره بقدرات أكبر وأشمل من العراق والزرقاوي. ويبدو أن انشقاق نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام واستعداده لإنشاء جبهة وطنية معارضة لتفكيك النظام، وهو الذي شارك في بنائه، يزيد من تحفز دمشق ومن نظرها إلى أي مبادرة بعين الشك والريبة من دون الخوض في رفضها.
وتشير مصادر مطلعة في باريس، إلى انه في الوقت الذي يبحث فيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز ومعه الرئيس حسني مبارك ومن ثم الرئيس جاك شيراك عن صيغة لإنقاذ الوضع بحيث يحصل لبنان على "حقيقة" تمكنه من استعادة انفاسه وأمنه واستقراره واستكمال مساره في الحصول على استقلاله الناجز وكامل سيادته، وأن تفتح هذه "الحقيقة" أمام دمشق "الباب" نحو استعادة نفسها والخروج من "رهاب الخوف من الإعدام"، تقوم دمشق بخطوات اضافية في إطار "الهروب إلى الأمام". ولعل التجاهل الإعلامي السوري لقمة العاهل السعودي والرئيس المصري إلى درجة أن صحيفة "الثورة" اكتفت وحدها بإيراد الخبر في ثلاثة أسطر فقط، يعني ما يعنيه من توجهات وتوجيهات داخلية.
"اللوبي اليهودي" وعرقلة المتشددين في واشنطن
وتجمع أوساط عربية وفرنسية في باريس على أن هذا الموقف السوري لا يعود فقط إلى إمساك دمشق "برهينة" الاستقرار في المنطقة، وانما لجملة أسباب منها أن دمشق تشعر حالياً انه على الرغم من أن "السيف" لم يرفع عن رقبتها، إلا أن "الوقت" أصبح حيادياً ان لم يكن إلى جانبها بعدما بقي أكثر من ستة أشهر ضدها. ومن ذلك، أن الوضع العراقي يسمح لها، ومن خلال تجربة ميدانية في المرحلة السابقة للانتخابات التشريعية، بأن تكون قادرة على الإمساك بالأرض، والدليل هذا "الهدوء الأمني" الذي سبق الانتخابات ورافقها. وأن هذا الإمساك لا يعود إلى علاقة لها بالزرقاوي، وانما لعلاقتها بشيوخ عشائر السنّة وحزب "البعث" الناشط حالياً ضمن المقاومة المسلحة. ولذلك فإن الأميركيين وان لم يعقدوا صفقة معها، فانهم لا بد أن يسعوا اليها لاحقاً، وعندها يكون باب التفاوض مفتوحاً على مصراعيه خصوصاً، وكما قال عبد الحليم خدام، أن القناعة الراسخة في دمشق هي أن الأميركيين لا يعنيهم لبنان بل العراق.
كذلك فأن دمشق ترى أن الرئيس جورج بوش يزداد ضعفا مع كل يوم يقترب فيه من نهاية ولايته من جهة، وغرقاً في الحملات الانتخابية الأميركية من جهة أخرى. وكذلك الأمر بالنسبة الى الرئيس جاك شيراك الذي تنتهي ولايته عام 2007 وهو ليس كما يبدو في وارد التجديد.
ومما يساعد دمشق أكثر فأكثر، وهذه قناعة فرنسية تؤيدها ضمناً آراء عربية، أن اللوبي اليهودي في واشنطن "يفرمل" أي تصعيد من جانب "صقور" الإدارة الأميركية، لأن التصريحات الإسرائيلية العلنية تشدّد على عدم تعريض الاستقرار في سوريا للخطر، كي لا تفتح أبواب المجهول أمام أي خطر أصولي على حدودها بعد أن بقي حتى الآن بعيداً عنها مشغولاً في أفغانستان والعراق والعراقيين وعواصم الغرب. ويبدو أيضاً ان أنباء سيئة للبعض تحمل أنباء طيبة للبعض الآخر، ذلك أن خروج ارييل شارون من الساحة السياسية أفقد إسرائيل "بوصلتها" لفترة زمنية، مما يشكل وقتاً اضافياً يمكن اللعب في "ملعبه". وأخيراً فإن دمشق كما تقول الأوساط نفسها، ترى في انحسار إيران في مواجهة الملف النووي، تحولاً يخرجها من حراجة الشعور بالعبء على النظام الإيراني إلى حالة حاجة طهران لها مما يسمح لها بالطلب وليس التمني.
أمام هذه التعقيدات المختلطة بالخوف والملاحقة الأمنية اليومية، من جهة، والمطالبة الدولية اليومية من جهة ثانية، يصبح تحذير الرئيس شيراك من "الوضع الخطير جداً" مشروعاً وواقعياً، ويبقى كذلك من الآن وحتى يتم العثور على آلية عملانية لإقناع دمشق بأن اللبنانيين لا يريدون أكثر من الأمن والاستقلال والعلاقات المميزة، ولا يسعون إلى إسقاط النظام لانهم إذا كانوا لا يريدون أن يتدخل أحد في شؤونهم فمن غير المعقول والمقبول أن يسمحوا لأنفسهم بالتدخل في شؤون الآخرين وتحديداً سوريا.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.