لدى فرنسا "خارطة طريق" للوضع اللبناني، منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وقد وضعت "الخارطة" بتوجيه من الرئيس جاك شيراك وبرعاية دائمة لها، و"الديبلوماسية الفرنسية لم تخرج عنها، ولم تحد عن مساراتها". هذا ما تردده المصادر المطلعة في باريس، مضيفة: "حتى الاعتدال الذي يبرز أحياناً، يتناول شكل حركة الديبلوماسية الفرنسية وهذا طبيعي، ولا يصل أبداً إلى مضمون الموقف نفسه. ولذلك فإن أي حديث عن تصعيد سياسي فرنسي مفاجئ، أفشل التحرك السعودي ـ المصري المتعلق بمستقبل العلاقات اللبنانية ـ السورية، خطأ ناتج إما عن قراءة سطحية لموقف باريس أو قراءة عرضية مبنية على نوايا سيئة مسبقة". وتشدّد المصادر نفسها على أن "أي عودة إلى المواقف العلنية الرسمية وعلى أعلى المستويات تؤكد ذلك.
وتكفي مراجعة خطاب الرئيس جاك شيراك أمام الجسم الديبلوماسي العامل في باريس لتوضيح كل ذلك".
في خطابه بمناسبة عيد رأس السنة، رسم الرئيس الفرنسي وكما اعتاد "مسارات" السياسة الفرنسية الخارجية بكل ما يتعلق بالملفات الساخنة أو الملحة على امتداد القارات الخمس. ويكون هذا الخطاب عادة حسب البروتوكول الفرنسي "ابلاغاً" فرنسياً، أمام سفراء الدول، الذين كان من بينهم سفيرتا لبنان وسوريا سيلفي فضل الله وصبا ناصر. وقال شيراك: "إن زمن التدخلات والإفلات من العقاب في لبنان قد ولّى.. على سوريا أن تتعاون تعاوناً كاملاً مع لجنة التحقيق". والموقف الفرنسي معروف جيداً من مصر والسعودية، فالعلاقات السياسية والشخصية، تحول دون أي قراءة غامضة خاصة وأن المعارضة كاملة في كل المباحثات الرسمية وغيرها عبر الاتصالات المباشرة التي يتولاها شيراك خارج القنوات الديبلوماسية المعتادة.
"الحائط" الفرنسي ـ الأميركي
وأمام هذه المعرفة السعودية ـ المصرية بالموقف الفرنسي، فإنه لا يمكن القول ان دمشق نجحت في تمرير "اقتراحاتها" في غفلة عن الرياض والقاهرة، فكانت النتيجة الطبيعية لذلك الاصطدام "بحائط" الموقف الفرنسي. والواقع أن الديبلوماسية المصرية ـ السعودية وكما ترى المصادر في باريس، التي يعنيها أمن واستقرار سوريا بقدر ما يعنيها أمن واستقرار لبنان، تركت للموقف السوري أن يأخذ مداه ويرى حقيقة الموقف الدولي، حتى لا يُقال خاصة بعد تصريحات عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق، أنها كانت بتوجيه أو رعاية سعودية ـ عربية، هذا من جهة ومن جهة أخرى أن يأتي الرفض من باريس وواشنطن بدلاً من أن يكون من الرياض والقاهرة.
ومما زاد في تسريع وتيرة حركة الديبلوماسية السعودية ـ المصرية المشتركة، رؤيتها ان عدم نزع فتيل الأزمة السورية اللبنانية، في وقت تهب فيه على المنطقة الرياح الإيرانية الساخنة خطر جداً.
فالسعودية ومعها مصر لا يمكنهما البقاء مكتوفي الأيدي وهما تريان طهران تقود الدفة في المنطقة في ظل تصعيد مفتوح.
فالموقف إيران الايديولوجي المتشدّد على جميع الاصعدة وخاصة ما يتعلق بالملف النووي إلى درجة الاغفال التام للموقف الأوروبي ـ الأميركي الذي أصبح مشتركاً ومتناغماً، يضع كل المنطقة وسط حلبة رقص دامية "الراقص" الأول فيها إيران، والسعودية التي تعودت دائماً أن تكون "الإطفائي" في الأوقات الصعبة. حيث الديبلوماسية السعودية تنجح دائماً في حالة التهدئة وترتيب الأوضاع. وهي في تحركها هذا لم تخرج عن "ثوابتها" بكل ما يتعلق بلبنان.
و"الحائط" الفرنسي الذي اصطدمت به الاقتراحات السورية، وجد في "البلدوزر" الأميركي سنداً قوياً. وتقول المصادر في باريس، "الواقع ان موقف واشنطن من دمشق والملف اللبناني هو الذي عاش في الأيام الأخيرة تصعيداً حاداً". ذلك أن واشنطن التي وجدت نفسها في مواجهة الموقف الإيراني التصعيدي بما يتعلق بالملف النووي، رأت في جلب "الترويكا" الأوروبية إلى ساحتها ودفع الملف الإيراني إلى مجلس الأمن، وهو ما كانت تريده منذ الأساس".
فرصة لا تعوض، لان السياسة تقوم دائماً على المصالح المتبادلة ولانه يمكن أيضاً اصابة عصفورين بحجر واحد، فإن واشنطن صعدت من موقفها حول لبنان وسوريا. إذ سارعت كوندوليزا رايس إلى تحذير سوريا "من مواصلة محاولاتها اثارة الاضطرابات وترهيب اللبنانيين كما طالبتها في "ان تتعاون تعاوناً كاملاً لتنفيذ قرارات مجلس الأمن". وبهذا فإن واشنطن التي أصبحت بحاجة إلى موقف فرنسي فاعل ومؤثر داخل الترويكا الأوروبية لدفع الملف الإيراني باتجاه مجلس الأمن، قامت بملاقاة باريس في وقتها التصعيدي مسقطة بذلك كل الأحاديث أو الاشاعات التي راجت حول وجود صفقة سورية ـ أميركية أساسها في العراق من جهة وتوجيه تحذير علني إلى سوريا من أي اندفاعة لها للاندماج بالموقف التصعيدي لإيران من جهة أخرى.
جولات ومشاورات فرنسية وأميركية
وهذا التنسيق الفرنسي ـ الأميركي في الموقف من الوضع اللبناني لا يقتصر على التصريحات الرسمية العلنية. ويبدو جلياً من أجندة تحركات الديبلوماسية الفرنسية ـ الأميركية، أن لبنان سيشهد مع وصول رئيس لجنة التحقيق الدولية سيرج براميرتس، إلى بيروت للبدء بمهماته خلفاً للألماني ديتليف ميليس، زيارات سريعة أولاها زيارة ديفيد وولش مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، ويرافقه ايضاً اليوت امبرامز المسؤول عن ملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي. والهدف المعلن للزيارة التي لن يلتقي وولش خلالها الرئيس إميل لحود، رغم غنى برنامج لقاءاتهما اللبنانية "تأكيد الدعم الأميركي للبنان".
وبدورها فإن باريس، ستوفد وزير خارجيتها فيليب دوست بلازي إلى بيروت والمنطقة، علماً أن المستشار الديبلوماسي للرئيس الفرنسي موريس غوردو مونتانييه وصل إلى واشنطن، وبدأ مباحثاته فور وصوله مع ستيفن هادلي مستشار الرئيس جورج بوش للأمن القومي. واستناداً إلى المصادر المطلعة في باريس، فإن مبعوث الرئيس شيراك، سيتناول ملف لبنان والعلاقت السورية ـ اللبنانية من جميع جوانبه ومنها الوساطات العربية، ومطالب لجنة التحقيق الدولية من دمشق، والوضع الأمني والسياسي في لبنان بما فيها ضرورة العمل على استعادته لاستقراره، وأخيراً وهذا هو الجديد بحث مستقبل الرئيس اللبناني إميل لحود.
من خرج من الباب لن يدخل من النافذة
وتشدّد الأوساط المطلعة في باريس، على أن كل التحركات الفرنسية تقوم على أساس قاعدة مهمة "وهي عدم التراجع عن المكتسبات التي حصل عليها لبنان منذ 14 آذار ولا تنازلات عنها.
لذلك فإنه من غير المسموح استدراج لبنان إلى التزامات جديدة تمر عبر "نوافذ" النوايا الحسنة. ومن ذلك استدراجه إلى بيت العنكبوت الأمني عبر لجان أمنية جديدة، ولا إلى انخراط في حركة سياسية تتعلق بالمفاوضات مع إسرائيل ظاهرها العلاقة القومية والاخوية وباطنها العودة إلى وحدة المسار والمصير". وفي الوقت نفسه فإن باريس أكدت أن لا علاقة لها بنائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام ولا بتصريحاته. وان ما يعنيها هو لبنان ومستقبله فقط. ولذلك فإن باريس وتفهماً منها للحساسية العربية التي ترى في استجواب رئيس عربي من لجنة دولية سابقة يمكن التأسيس عليها مستقبلاً فإنها تبدي تفهمها لوضع الرئيس السوري الأسد، لكن في الوقت نفسه، لا أحد يستطيع تقديم الضمانات لأحد بخصوص التحقيقات الدولية.
الرئيس جاك شيراك الخبير بفن توجيه "الرسائل" إلى من يريد من المعنيين بالملف الذي يعالجه، اختار في طريقه استقباله للنائب سعد الحريري في قصر الاليزيه عندما كسر البروتوكول واستقبله على درج الأليزيه كما كان يفعل مع والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري توجيه "رسالة" يؤكد فيها "تواصلية علاقاته وعودته الخاصة مع سعد نجل صديقه، من جهة واستمرار اهتمامه بلبنان ومستقبله كالسابق وأكثر حتى يتجاوز الأزمة التي يمر بها وصولاً إلى تحقيق كامل حريته واستقلاله وسيادته من جهة ثانية، واستكمالاً لهذا الالتزام فإن باريس ترى "أن وحدة اللبنانيين ضرورية في هذه المرحلة، ولذلك تشجع وتدعم كل الجهود اللبنانية ـ اللبنانية من ناحية والعربية من ناحية اخرى لتحقيق ذلك. وهذه الوحدة تقطع الطريق على أي طرف خارجي يحاول اللعب على حساسيات علاقات الأطراف اللبنانية، وتسهل مهمة القوى المعنية بلبنان سواء كانت فرنسية ـ أميركية أو مصرية ـ سعودية.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.