وصول بعثة صندوق النقد الدولي الى بيروت بعد غد الثلاثاء كما سبق وأن أعلنه النائب سعد الحريري بعد لقائه مع الرئيس الأميركي جورج بوش ونائبه ديك تشيني من جهة، وتواجد رئيس دائرة الشرق الأوسط وشمال افريقيا في البنك الدولي جو سابا في بيروت من جهة أخرى، يؤكد أن مؤتمر بيروت 1 قد وضع على نار حامية من جهة، ومن جهة تشكل ترجمة مباشرة على الأرض للاهتمام الدولي بالوضع في لبنان من جميع جوانبه السياسية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً أنه لا يمكن أبداً فصل الوضع السياسي عن الحالة الاقتصادية. ويوصف جو سابا هذا الترابط بقوله: "إن الانفتاح الاقتصادي وتوفير فرص العمل "أي الخروج من الأزمة الاقتصادية وتدهور سوق العمل" يساعد على التخفيف من الضغط السياسي والعكس صحيح".
والترجمة الميدانية لهذا الاهتمام الدولي، ستكون حاضرة في عقد مؤتمر بيروت واحد. هذا المؤتمر الذي من المخطط له، إعادة بناء ما هدّمته عملية تفشيل مؤتمر باريس 2، والتي كانت كما يبدو مبرمجة سياسياً. وقد أوقف هذا الفشل في تلك الفترة مسار الحل المعقول والمطلوب لتسديد جزء من الدين العام وإيقاف "محدلة" فوائده. ولذلك فإن مسألة توفير المناخ السياسي العام الملائم، في مرحلة خرج فيها لبنان من ضغط الوصاية والتوجيه، واجبة وضرورية.
وإذا كانت الأوضاع الداخلية والاقليمية والدولية، التي أحاطت بلبنان بعد جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط قد دفعت بالاهتمامات الرسمية والشعبية للسير في مسار واحد هو العمل للتوصل الى الحقيقة ومعاقبة الجناة والمحرضين والمخططين والمنفذين، فإنه يبدو الآن، أنه لا بد من الاندفاع في مسار اقتصادي جديد يستطيع لبنان فيه تخطي المصاعب، والخروج من حافة الهاوية ورسم هذا المسار لا يعني مطلقاً إهمال مسار الحقيقة، لأن لا أحد من اللبنانيين إضافة الى المجتمع الدولي يفكر بمثل هذه الخطوة القاتلة، لأن في التوصل الى الحقيقة تعزيزاً لبناء استقلال لبنان واستعادته لسيادته واطمئنانه لمستقبل لا يعيش في حالة خوف دائم من وقوع جرائم أخرى تهدد أمنه أو سلمه الأهلي.
ولذلك يمكن منذ الآن التحدث عن "وحدة جديدة للمسارات"، هي وحدة مساري الحقيقة وبناء أرضية اقتصادية تؤهل لبنان ليس فقط للخروج من أزمته الحالية وإنما لفتح آفاق جديدة تؤدي الى "خلق حالة من النمو في اقتصاده تؤهله مستقبلياً الانعتاق من أسر الدين العام الذي يتضخم سنوياً".
الاهتمام الدولي ليس أبدياً
ولا شك أن الأزمة الوزارية، التي طالت أكثر مما يجب، والتي أشعلت "حرباً كلامية"، وانتهت "بحل لغوي" يثبت ما هو قائم ولا يطرح ما يفتح مواجهات جديدة بعضها مستحيل مثل المواجهة مع المجتمع الدولي، حجبت باقي الاهتمامات والمهمات والتي في صلبها التحضير لعقد مؤتمر الدول المانحة وإن لم توقف عملية تمهيد الوضع لنجاحه متى عقد. والرئيس فؤاد السنيورة الذي هو أكثر شخص يعرف دقة الوضع المالي وحجم الأزمة الاقتصادية بسبب تاريخه الطويل من الممارسة في وزارة المالية الى جانب الرئيس الشهيد رفيق الحريري، يدرك أكثر من غيره أنه لا يمكن ترك "القطار الاقتصادي" متوقفاً في محطة الخلافات السياسية خصوصاً أن استحقاقات كثيرة قادمة، من جهة، ومن جهة أخرى فإن الاهتمام الدولي لا يمكن أن يبقى الى الأبد إذا وجد أن اهتمامه لا صدى له لدى اللبنانيين، في القيام بخطوات وصياغة قرارات ووضع خطط حقيقية وواقعية منتجة مستقبلياً.
والى جانب هذا الوعي، فإن خوف اللبنانيين من مفاعيل الأزمة الاقتصادية التي طالت حتى لقمة عيشهم ومستقبلهم، أصبح قوة دفع لجميع القوى السياسية الاجتماعية والشعبية للعمل سريعاً من أجل تصحيح مسار الحركة السياسية بما يتجاوب مع المطالب الشعبية الملحة، ومن الثابت والأكيد لدى الجميع أن قاعدة تحضير المناخات السياسية الايجابية مطلوبة أولاً وأساساً لإطلاق القطار الاقتصادي". ولذلك طالبت مختلف ا لقوى بضرورة تعزيز الثقة بين جميع الأطراف حتى تشكل هذه العودة لوزراء "حزب الله" وحركة "أمل" قوة دفع مستمرة وليس مجرد عملية تجاوب مشتركة تسقط أمام أول امتحان. فالمطلوب تحقيق انعكاس ايجابي لهذا الحل على الواقعين السياسي والاقتصادي، وليس مجرد ترطيب الأجواء وتهدئة المخاوف.
مطالب متبادلة
ومن المؤكد أن وفد الصندوق الدولي القادم الى بيروت مثله مثل جو سابا من البنك الدولي، يعرفان أن لبنان حالياً يريد من مؤتمر الدول المانحة واستناداً الى "ورقة بيروت" هبة مالية قيمتها 2.8 مليار دولار أو قرضاً ميسراً قيمته سبعة مليارات دولار وبفائدة 3 في المئة وأن التأثير المتوقع هو تخفيض نسبة الدين العام للناتج ا لمحلي من 170 في المئة في العام 2005 الى 135 في المئة في العام 2010. وأن لبنان بالمقابل مستعد لتنفيذ خطة لتحقيق نمو سنوي يصل الى 5 في المئة هذا العام. وزيادة الفائض الأولي في الموازنة الى 8 في المئة في العام 2010 علماً أنه لا يتجاوز حالياً 2 في المئة وأن هذه الخطة تتضمن من بين ما ستتضمنه تخصيص بعض القطاعات مثل الهاتف الثابت والخلوي وبيع حصة مصرف لبنان في الميدل ايست والكازينو وبنك انترا، الى جانب قطاعات أخرى سواء تطلبت اصلاحات عاجلة أو تخصيصها.
بدورهم فإن ممثلي الصندوق الدولي والبنك الدولي سيكررون ما قالوه دائماً وهو "إن تحقيق الوفرة الاقتصادية يتطلب في حالة لبنان تحديث النمو وإن من هذه المستلزمات تنفيذ الاصلاحات الهيكلية أو البنيوية" ومن ذلك كما تؤشر ورقة بيروت واحد إصلاح مؤسسة كهرباء لبنان لتوفير مبلغ يصل الى 600 مليون دولار خلال خمسة أعوام ولعل أكبر امتحان ستواجهه مختلف هذه القوى السياسية أن ورقة بيروت واحد تتضمن قرارات واصلاحات غير شعبية يجب تنفيذها لتظهر مفاعليها الايجابية لاحقاً. ومن ذلك رفع الضريبة المضافة ابتداء من نيسان القادم الى 12 في المئة ومن ثم الى 15 في المئة في العام 2008. كما سيتم تحرير أسعار البنزين تدريجياً. وهذه "القرارات غير الشعبية" تتطلب حكماً تضامناً واضحاً بين القوى السياسية خصوصاً المشاركة في الحكومة لأن أي خلل تحت أي صيغة ستكسر كل العملية، وتعري لبنان أمام المجتمع الدولي.
ومن الطبيعي أن يطلب لبنان مساندة المجتمع الدولي لتعزيز وضعه بعد 14 آذار. ومن الطبيعي إيضاً أن يطلب هذا المجتمع من لبنان خططاً مدروسة وذات بناء صلب ومتكامل تستطيع مواجهة الاستحقاقات الملحة من جهة والسير بلبنان نحو مستقبل يوفر بقوة توفير كل المناخات لتحفيز الاستثمارات الوافدة والتي كان يستحق بعضها الآن في زمن طفرة أسعار النفط الهائلة.
ولذلك فإن القوة المحركة "لقطار" الحل الاقتصادي هي في تعميق أكثر لحالة التوافق وتصويبها بين مختلف الأطياف السياسية بحيث يمكن الفصل بين مسار الخلافات القائمة ومسار الاتفاق على انقاذ الوضع الاقتصادي الذي وصل الى حافة الهاوية.
لبنان ولأول مرة وفي ظروف غير اعتيادية يجد نفسه أمام فرصة دولية مؤاتية له غير مسبوقة حتى في أفضل الأوقات التي كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري يعمل فيها من أجل إنجاح باريس ـ 2. والدليل أن الرئيس الأميركي جورج بوش أكد للنائب سعد الحريري عندما التقاه في واشنطن في البيت الأبيض "بأنه مهتم بالمساعدة على عقد لمؤتمر الدول المانحة". وهذا ما لم يكن موجوداً في السابق، عندما كان الرئيس جاك شيراك يشكل وحده "الرافعة الدولية" لباريس ـ 2.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.