"بوسطة" الأشرفية لم تحرق لبنان كما حصل مع "بوسطة" عين الرمّانة في 13 نيسان من العام 1975.
جميع الاحداثيات التي وُضعت ليوم الأحد الأسود كانت تؤشر إلى أن إصابة الهدف مضمونة. ورغم ذلك فشلت محاولة "اغتيال" لبنان، ولم تتحوّل شوارع الأشرفية إلى حواجز ثابتة أو طيّارة، الحياة والموت فيها وقفه على حافة "سكين" الهوية.
"عرقنة لبنان" سقطت يوم "الأحد الأسود" مرة أخرى منذ 14 شباط عندما اغتالوا الرئيس الشهيد رفيق الحريري في "يوم الحب"، وبهذا يتأكد لجميع اللبنانيين أن كسر السلم الأهلي في لبنان وإشعال الحرب الأهلية واستتباعها بحروب الآخرين، لم يعد عملية سهلة مهما بالغ أعداء هذا الوطن في التفنّن برسم المخططات ووضع الاحداثيات. لكن ذلك لا يمنع مطلقاً من القول ان هذا النجاح الواضح للبنانيين ما كان ليتم لولا الوقفة الوطنية المسؤولة والحضارية لسكان الأشرفية، ولكن صعوبة الامر لا تعني الاستحالة لتجارب أخرى تستفيد في وضع "احداثيات" تصويبها القاتل من فشلها السابق.
وما حصل يوم "الأحد الأسود" وما كان يتم بثه من إشاعات وسموم طوال الأشهر الماضية عن اقتراب لحظة حرب المذاهب، ومع بداية نهاية عام كامل على الزلزال الكبير في 14 شباط وما تبعها من سلسلة انفجارات واغتيالات شكلت كل واحدة منها "زلزالاً استتباعياً" ضخماً، ولذلك "حان الوقت كما يقول سياسي مخضرم، إلى وقفة مع الذات إذا كنّا نريد كلبنانيين إنقاذ لبنان من العرقنة".
وبداية، فإن مكان وزمان تظاهرة الأحد ومهما كانت مبرراتها وأسبابها كما تقول مصادر مطلعة يشكّلان خطأ قاتلاً كان يجب معالجته، لأنه إذا كان من الصعب ضبط عدة مئات يتظاهرون لأسباب مطلبية أو احتجاجية، كيف يمكن ضبط عشرات الألوف الذين يشعرون صادقين ان إيمانهم هو الذي جرت محاولة طعنه. وإذا ما اضيف إلى "برميل البارود" هذا، فتيل المجموعات السلفية ومنها "القاعدة" فإن لا أحد يمكنه القول بأنه فوجئ بما حدث، وقد أثبتت كل التطورات ان إمكانية تطويق العنف السلفي بممارسة ديموقراطية وشعبية مستحيلة. لأنه إذا كان هدف الآلاف من المتظاهرين التعبير عن إيمانهم واحتجاجهم، كما شدّدت أوساط من المنظمين فإن العشرات من السلفيين هدفهم إشعال النار لإحراق البلد ضمن صيغة إحراق العالم الإسلامي ساحة بعد ساحة وعلى قاعدة الحرب الشاملة، وما كان سراً أصبح علانية، بالدعوة أمام العدسات بطول العمر "لأميرنا الزرقاوي".
والأخطر من وجود المجموعات السلفية الدينية ومنها "القاعدة"، وجود ما وصفته مصادر مطلعة بمجموعات "السلفية المخابراتية" من النظام الأمني ـ السياسي القديم، ومهما بلغت مسألة نفي محاولة اغتيال لبنان من قوة، فإن الصور التي التقطت لبعض هؤلاء "السلفيين المخابراتيين" تؤكد ان الجزء الغارق من "جبل الجليد" للنظام الأمني ـ السياسي السابق ما زال ضخماً وصلباً وفاعلاً ومتحركاً.
استغراب واشنطن وباريس
واستغراب واشنطن وباريس رسمياً لوقوع هذه "الأحداث"، من جهة و"عدد الأشخاص الذين تمت تعبئتهم بهذه السرعة وهذه القوة"، يعني ان حلقة مفقودة تبدو موجودة في طريقة نظر العاصمتين المعنيتين بلبنان، وهذا يتطلب منهما مزيداً من الدعم للبنان 14 آذار، في جميع المجالات خاصة الأمنية والاقتصادية، فقد أثبتت أحداث وجرائم عام "الزلزال الكبير" ان القوى الأمنية تنقصها الامكانات والعدة الحديثة. فالأمن، وكما تعرف واشنطن وباريس، لم يعد محصوراً بامتلاك البنادق الحديثة وإنما هو أيضاً تجهيزات لوجستية في مجالات المعلوماتية والمختبرات وأجهزة الاتصالات وغيرها، كما ان لبنان وهو على أبواب عقد "بيروت ـ واحد"، بحاجة إلى دعم مفتوح بأقل شروط ممكنة، لأنه بدون نجاح "بيروت ـ واحد" سيكون للبنان موعد مع مخاطر وأخطار اقتصادية واجتماعية تضع سلمه الأهلي على المحك والتجربة الصعبة.
ولا شك في ان مسألة إثبات ان اللبنانيين لا يمكنهم وليس باستطاعتهم حكم أنفسهم بأنفسهم ما زالت مستمرة، ولو أن رصاصة وحدة أطلقت في الأشرفية في لحظة جنون أو غضب علا فيها صوت "العصبية الطائفية" على "العصبية الوطنية"، لما كانت هذه المسألة بحاجة إلى إثبات أمام المجتمع الدولي، وبدلاً من "استجداء" دمشق الظروف الطارئة والحاجات الملحّة للذهاب إلى العراق في "قوة ردع" عربية، كانت الساحة اللبنانية هي المرشحة لذلك، إن لم يكن بالقوات الأمنية فبالتنسيق الأمني المعروض سابقاً.
ولا يعني فشل "عرقنة" لبنان يوم "الأحد الأسود"، كما تقول مصادر من قوى 14 آذار هو الهدف الوحيد، إذ من الواضح ان الهدف الآخر والمهم كان وما زال اغتيال 14 شباط بكل ما أعطاه للبنان من قوة دفع لانجاز وحدة اللبنانيين من مسلمين ومسيحيين لتحقيق الاستقلال والسيادة. وأيضاً واستكمالاً لهذا الهدف اغتيال 14 آذار الذي ترجم على الأرض وفي ساحة الشهداء التي تحولت إلى ساحة للحرية ما رسمه "تسونامي" دماء الرئيس الشهيد رفيق الحريري. واغتيال 14 آذار لا يعني تفكيك قواه أو إعادة تشكيله من جديد فقط، فالأمر أخطر من ذلك بكثير، لأنه يعني ضرب أرضيته السياسية وأهداف قواه الوطنية.
وأمام كل هذه المخاطر فإن مصادر مؤثرة من قوى 14 اذار ترى ان مراجعة للذات وبناء استراتيجية جديدة لهذه القوى تأخذ بعين الاعتبار دروس "سنة الزلزال" بكل أحزانها وإنجازاتها مطلوبة، لأنه لا يمكن مواجهة الاستحقاقات القادمة خاصة مع صدور تقرير براميرتس في حزيران المقبل ودخول واشنطن وباريس في حمى استحقاقاتهما الداخلية بنفس الاستراتيجية السياسية وتحركاتها السابقة.
حوار الطاولة المستديرة
الحوار مطلوب وضروري للخروج من "جمهورية الخوف"، وقد حان الوقت لأن يكون هذا الحوار جامعاً مانعاً ولكل القوى، فلبنان وسلمه الأهلي هما المستهدفان وليس هذه القوة أو تلك أو هذه الطائفة أو تلك، ومهما استقوت طائفة بتوافقها مع طائفة أخرى، فإن ذلك سيبقى أسيراً للمتغيرات، فالمعروف ان لبنان يعيد "الانتاج الطائفي" المتفجّر في كل مرحلة من المراحل على حدة. وما دعا إليه الرئيس نبيه برّي من "جلوس الصف الأول من السياسيين إلى طاولة مستديرة" هو مطلب شرعي وحقيقي وملحّ. فالحوار بين "الجزر الأمنية" لا يسمح بأي حوار صحي ومثمر لأن الحوار الحقيقي يتطلب أول ما يتطلبه نظر كل طرف في عيون الطرف الآخر مباشرة، وإسقاط انعدام الثقة التي تخلق حواجز زجاجية تحول دون التواصل، ومثل هذا الحوار يتطلّب طرح كل القضايا الخلافية على النقاش وليس الاكتفاء بالاتفاق على ما هو متفق عليه أصلاً.
التظاهرة المليونية في 14 آذار، فرضت لبنان على أجندة المجتمع الدولي ودفعته للوقوف مع اللبنانيين، طلباً للحقيقة ودعماً لاستقلالهم وسيادتهم، "واللبنانيون اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى لأن يكونوا يداً واحدة" كما قال البطريرك صفير. والفرصة متاحة الآن في إعادة إنتاج 14 آذار يوم 14 شباط موعد الذكرى الأولى لجريمة العصر في لبنان، ولذلك فإن خروج اللبنانيين، كما تدعو إلى ذلك قوى 14 آذار، إلى ساحة الحرية بمئات الألوف يسقط مرة جديدة كل محاولات "عرقنة" لبنان، ويؤكد ان ما حصل يوم الأحد الماضي لم يكن مجرّد حالة طارئة، بل وليد تطوّر ونضوج لبناني وطني يجعل من محاولات إشعال لبنان من اي طرف داخلي او خارجي "ناراً" تحرقه أولاً وآخراً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.