هذا الحوار في البرلمان، هو لبناني مئة في المئة. وهو إنجاز بدأ تحقيقه مع "زلزال" 14 شباط، وتأكد مع "تسونامي" 14 آذار، وتبلور مع الانسحاب العسكري السوري من لبنان. وهذا الحوار الذي وضع جميع الأفرقاء وجهاً الى وجه، وعيونهم في عيون بعضهم البعض، كسر الأسوار حول "الجزر الأمنية" المفروضة على الجميع منذ بدأ مسلسل الاغتيالات والتهديدات، ودفع باتجاه خطاب سياسي أكثر شفافية ومتحرراً من شروط الخطابات الشعبية والحوارات الاعلامية والرسائل عبر الوسطاء.
لكن "لبنانية" هذا الحوار، لا تعني مطلقاً أن ساحة النجمة تحولت الى "جزيرة" لا علاقة لها بالعالم. والواقع ان المتابعة العربية والمراقبة الدولية يومية ومكثفة وحثيثة لكل ما يجري في لبنان. والحوار نفسه وان تولى الرئيس نبيه بري ترتيب آليته وشروطه، فإن جولاته المكوكية واستناداً الى خبراته الطويلة التي تأسست مع "مؤتمر لوزان"، فتحت الأبواب بقوة أمام انعقاد مؤتمر بيروت ـ الأول تشبهاً بصنوه بيروت ـ واحد الاقتصاديّ المقبل.
آذار شهر الاستحقاقات
ولا شك في ان الأسابيع التي سبقت آذار شهر المواعيد والاستحقاقات، قد ساهمت في "تبريد الدوائر" كما يقول مصدر عربي مطلع والتي كانت بسبب الحرارة المرتفعة للوضع ستؤدي الى اقفالها ووضع لبنان كله في قلب الاعصار". واللبنانيون الذين يريدون الدخول الى الربيع، دون ان يكون "ربيعاً حاراً"، يأملون كثيراً ان يرتفع الدُخان الأبيض فوق قبّة البرلمان، رغم تعقيدات المواقف، ولأن أيضاً سيبقى هذا الحوار جسراً الى المستقبل ومحاولة للاجابة عن السؤال المركزي: أي لبنان ـ الوطن نريد؟
ومن الطبيعي ان تكون "حوارات" ما قبل الحوار في ساحة النجمة، أدت الى "رسم مسار المستقبل وخاصة صياغة مخرج واقعي يؤدي اساساً الى الانتهاء من "تركة" ماضي ما قبل 14 آذار، لأنه اصبح مقبولاً من الجميع المبدأ القائل بأنه لا يمكن الاستمرار في الرقص فوق برميل بارود هذا الوضع مهما كانت أخلاقيات الوفاء ملحة، ولأنه أيضاً لم يعد من المفيد الاستمرار في التعايش مع بقايا هذه "التركة" من النظام السياسي والأمني.
وكل هذا في اطار يسقط نظرية "المؤامرة" التي اساسها ان الانتهاء من مفاعيل التمديد الذي حصل بالاكراه هو مقدمة للانتهاء من المقاومة وسلاحها وإلحاق هذا الطرف هزيمة بطرف آخر. ولذلك فإن الاتفاق على اسم البديل، هو ليس صعباً في "اسم الشخص" وانما في "برنامج الرئيس المتوافق مع الصيغة المطلوبة للبنان ـ الوطن"، وبما يشكل ضمانة لكل الأطراف بأن الانتهاء من بعبدا 2 لا يعني هزيمة لأحد.
وملاحقة لبنان عربياً ودولياً، تبدو جلية في حضوره العلني، في جميع اللقاءات العربية والدولية الثنائية والمشتركة، فالرئيس جاك شيراك المتابع اليومي لمسار الوضع في لبنان دون ان يدفعه هذا الى التدخل في مجرياته وانما في العمل على تحصينه، فما يهم الرئيس الفرنسي وباريس سراً وعلانية "دعم التسويات الداخلية والدفع بقوة باتجاه انتهاز كل الفرص للحوار اللبناني ـ اللبناني".
نصرالله والخطاب التوحيدي
وهذه المتابعة الدقيقة، يبدو انها لم تثمر حتى الآن أي "مبادرة ملموسة ذات آلية وخريطة طريق "واضحة لها". ولعل ما قاله مصطفى عثمان اسماعيل مستشار الرئاسة في السودان، واقعي جداً. فقد أكد على ضرورة نتائج انتظار الحوار والتي على أساسها سنعيد النظر في الجهود وترتيبها وجدولتها". واستكمالاً لهذا الكلام العلني فإن مصدراً عربياً مطلعاً يقول "ان اتصالات مكثفة تجري دائماً بعيداً عن الأضواء بين خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز والرئيس المصري حسني مبارك لاستنباط مشاريع حلول وغربلة افكار واقتراحات".
ويضيف المصدر العربي، انه يمكن اضافة انتظار مواعيد اخرى الى نتائج الحوار لصياغة المبادرة العربية. وهذه المواعيد، تبدأ بزيارة الرئيس جاك شيراك الى المملكة العربية السعودية بدءاً من الغد الجمعة، حيث سيطلع العاهل السعودي ضيفه الفرنسي على "نتائج الجهود السعودية ـ المصرية المبذولة بكل ما يتعلق بالوضع اللبناني ـ السوري. علماً ان شيراك اكد بعد لقائه كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة "أترقب من سوريا تنفيذ قرارات مجلس الأمن كاملة وتحديد علاقات مع لبنان مبنية على الاحترام والمساواة".
براميرتز والتقدم الكبير
الى جانب ذلك، فإن انتهاء الحوار تحت قبّة البرلمان سيكون ايضاً على موعد جديد مع التقرير المرحلي لرئيس اللجنة الدولية للتحقيق سيرج براميرتز في 15 آذار الذي قال كوفي انان عنه لدى خروجه من اللقاء مع الرئيس الفرنسي: انه تقرير مرحلي لكنه يتقدم بشكل كبير". ولا بد ان يأتي الاستحقاق الأخير لشهر آذار وهو انعقاد القمة العربية في الخرطوم الا وقد أنجزت عملية الاجابة عن الأسئلة الكبيرة المتعلقة بلبنان خاصة وأن التقاطع العربي ـ الدولي وخاصة الفرنسي منه متكامل.
وترى مصادر عربية وفرنسية مطلعة في باريس، "ان الدعوة لأن يكون التحرك ضمن اطار دستوري ومسالم وبعيدا عن العنف "لانجاز أم المعارك" في بعبدا ـ 2، يتكامل مع الدعوة الأميركية لأن تبقى "ثورة الأرز" غير ملونة بقطرة دم واحدة". وما هذا إلا لأن الرياض والقاهرة وباريس وواشنطن لا تريد ان ترى لبنان وهو يسقط في اتون "العرقنة المذهبية" او الطائفية. اذ يكفي العرب والعالم عراق واحد. ولا شك ان المفتاح الكبير لقراءة البيان الصادر بعد لقاء القمة بين السيد حسن نصرالله والنائب سعد الحريري في قريطم هو في الكلام عن "بذل الجهود لوأد الفتنة وتأكيد وحدة المسلمين".
باريس وتغيير التكتيك
وتشدد هذه المصادر العربية والفرنسية في باريس "ان تغيير التكتيك في التحرك باتجاه لبنان لا يعني مطلقاً تغيير الاستراتيجية. فالهدف ما زال هو وجود "ثورة الأرز" إلى نهاياتها وهو حصول لبنان على كامل استقلاله وسيادته وحريته وأمنه".
وتؤكد المصادر نفسها أن باريس أبدت حماسة عميقة لحصول تفاهم واسع بين مختلف القوى وايضاً بين مختلف المذاهب والطوائف. وهي رغم تحفظها عن "حزب الله" ومطالبتها بتنفيذ كامل للقرار 1559، فإنها ترى ضرورة تفاهم اسلامي واسع من جهة، واسلامي ـ مسيحي من جهة اخرى".
واستناداً إلى أوساط قريبة من حزب الله فإن السيد حسن نصرالله الدقيق جداً في تعامله مع أي محاولة لاحداث توتر مذهبي، للبناء عليه في مسارات جانبية، تعمد القاء خطاب توحيدي في اللقاء الشعبي الذي أعد بسرعة قياسية حول احداث العراق ومحاولات اشعال الحرب الاهلية وذلك للاسهام في تبريد الأجواء وقد نجح السيد حسن نصرالله في هذا المسعى فخفف من الاحتقانات التي كانت سائدة. وتضيف تلك الأوساط "أن العلاقات الجيدة والمتفهمة والقوية مع السعودية المهتمة جداً بوأد الفتنة في العراق، تلعب دوراً ايجابياً في كل التطورات الأخيرة في لبنان.
سوريا تحت المراقبة
وفي إطار التقاطع بين القاهرة والرياض وباريس وواشنطن، فإن الاختلاف دون السقوط في الخلاف يبقى أمراً طبيعياً وشرعياً. ففي حين ترغب القاهرة وتحت ضغط هم الحفاظ على الأمن القومي العربي"، أو كما يقول المستشار الرئاسي السوداني عثمان اسماعيل "عدم اذية دمشق" فإنها تبدو مستعجلة عبر العمل بين التحقيق باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والعلاقات السورية ـ اللبنانية، لإبعاد سوريا من دائرة المساءلة الدولية، في حين أن الرئيس جاك شيراك والرئيس الأميركي جورج بوش ولأسباب تتقارب أحياناً وتتباعد أحياناً اخرى يريان كما تقول مصادر باريس "انه وان لم يكن هناك مشكلة مع الوساطة العربية فإنهما يريان أن أي خطوة باتجاه سوريا لا يمكن أن تنجز طالما أن التحقيق لم يبرئها. ولذلك لا بد من اشعارها دائماً انها تحت اضواء المتابعة والملاحقة خاصة في كل ما يتعلق باستقرار لبنان وأمنه". وتضيف هذه المصادر "ان باريس تسعى لدى القاهرة والرياض وعلى طريق بلورة مبادرة عربية كاملة، لاقناع دمشق بالعمل على سحب وديعتها بسبب قرار التمديد بالاكراه. لأن في هذه المبادرة بناء لجسور الثقة يؤدي الى اعتاق دمشق من القرار 1559 ويفتح الباب أمامها نحو "حوار" جدي ودون ضغوط مع بيروت باتجاه بناء علاقات مشتركة مبنية على الاحترام والمساواة.
لقاء قريطم شكل "رافعة" لحوار البرلمان. وترك حق الاختيار لبكركي لهوية رئيس الجمهورية يعيد للمسيحيين حقاً أرادوه تحت خيمة اتفاق الطائف وها هم يستعيدونه من تحت "قبّة" الشرعية اللبنانية، وكل ذلك لبناء وطن خارج عن صيغة "إما جثة وإما عبداً".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.