انتقال المتحاورين في البرلمان، من نقطة عنوانها "أزمة الحكم" إلى البحث في "التغيير الرئاسي" يشكل قفزة ايجابية لأن بها ومن خلالها، يتم وضع اليد نهائياً على موطن الداء الذي يضرب لبنان ويكاد يشله سياسياً واقتصادياً ويقلقه أمنياً، وليس سراً كما يقول أحد أطراف 14 آذار: "ان رئاسة الجمهورية كانت وما زالت عقدة العقد منذ قرار التمديد بالإكراه ومن ثم تنفيذه وصولاً إلى ثورة الأرز بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط من العام الماضي، والتي وإن نجحت في تحقيق الانسحاب السوري وسقوط بعض رموز النظام السياسي ـ الأمني الذي كان قائماً فإنها لم تصل إلى الانتهاء منه بالوصول إلى استرجاع دمشق "لوديعتها" في قصر بعبدا".
وبعيداً عن المواعيد التي أطلقت خلال مسار "ثورة الأرز" فإن الجميع يعرف أن تصفية ملف الرئاسة معقد لأسباب دستورية من جهة وسياسية من جهة أخرى، وإذا كان قد قيل الكثير حول عقدة الإجراءات الدستورية وضرورة توافر أكثرية الثلثين من عدد أعضاء مجلس النواب غير المتوافرة حالياً، فإن المشكلة السياسية تتمحور لبنانياً حول "دور" الرئيس المقبل و"هويته" السياسية لأن ما يجري هو إعادة تأسيس لمسار الدولة اللبنانية على جميع الأصعدة داخلياً وعربياً ودولياً من جهة، ومن جهة أخرى مسألة دخول دمشق على هذا الخط مذكّرة بكل قواها بموقعها وقرارها في ذلك على أساس حضورها في توازنات القوى الداخلية، ووجودها داخل الأسرة العربية بكل التشابكات والتداخلات القائمة في الملفات الساخنة، وأهمها العراق وفلسطين والتحالف مع إيران المشتبكة مع الغرب حول الملف النووي.
"المحطة العربية"
ورغم أن الحوار كان وما زال مئة في المئة لبنانياً، فإن لا أحد مصاباً بعمى الألوان ليقول، إن ساحة النجمة "جزيرة" معزولة أو غير مرصودة. والواقع ومنذ البداية أن هذا الحوار كان وما زال في قلب "المربع" العربي، الغربي. المشكّل من الرياض والقاهرة وباريس وواشنطن، وأن هذا "المربع" ينشط ويدفع دائماً باتجاه استمرار الحوار أولاً، والتوصل إلى حلول وفاقية ثانياً، دون أن يصل في ذلك إلى السقوط في حالة الوصاية. علماً أن دوافع القاهرة والرياض هي في معظمها مختلفة مع دوافع باريس وواشنطن وإن بنسب متفاوتة. ولذلك كان لا بد "لقطار" الحوار اللبناني ـ اللبناني، أن يتوقف في "المحطة" العربية، خصوصاً أن استحقاق القمة العربية يدفع بهذا الاتجاه.
من هنا فإن تحول "شرم الشيخ" إلى عاصمة سياسية جديدة، تستقبل في ساعات عدة اجتماعات وقمماً محورها لبنان، ليس أمراً غريباً ولا مفاجئاً.
فالقاهرة والرياض المسكونتان بهّم خروج القمة العربية في الخرطوم بأقل ما يمكن من المواجهات، وبأكثر ما يمكن من التوافقات تريدان ألا يكون الملف اللبناني السوري الساخن أصلاً "ناراً" إضافية، ترفع من حرارة الوضع إلى درجة الغليان، بسبب ما يحمله الملف الفلسطيني وخلاف حركة "حماس" مع الرئيس محمود عباس، من جهة والملف العراقي بكل ما يتضمنه من أخطار مفتوحة عبر "العرقنة" على المنطقة كلها من جهة أخرى. ولذلك تعمل القاهرة والرياض على "قاعدة خروج لبنان من وضعه الدقيق، دون أن يلحق هذا الخروج أذية بدمشق كما يقول ديبلوماسي عربي".
لكن المشكلة الحقيقية التي تعرقل كل شيء، أن دمشق تعمل بكل قواها للعودة عبر الحديقة الخلفية إلى الداخل اللبناني لأنها وكما يبدو لم تهضم أساساً خروجها من لبنان. ولذلك تستثمر دمشق كل المتغيرات لإحداث اختراق واضح تفرض من خلاله وجودها على طاولة الحوار اللبناني ـ اللبناني عبر التذكير الدائم، بأنه لا يمكن تجاهلها. وهي وإن لم تعد تملك القرار كما في عهد رستم غزالي فإنها ما زالت تملك حق الفيتو نتيجة لتوازن القوى. ولا شك أن دمشق تلعب على خطين أو أكثر لاستثمار الأوضاع والتطورات بكل ما تملكه من خبره ومعرفة بتفاصيل "نسيج" الحياة السياسية التي عملت طوال ثلاثين سنة على حياكته حسب مقاساتها وإرادتها.
"هجمة الربيع" السورية
ويشير مصدر عربي مطلع، الى أن دمشق تشن حالياً "هجمة الربيع" على ثلاث جبهات:
لبنان مباشرة، من خلال الدفع باتجاه استمرار الأزمة ووضع الجميع أمام مأزق بعبدا "ووديعتها".
استغلال القلق العربي من مخاطر "العرقنة"، وإصرار العواصم العربية المعنية على وجوب عدم التغيير في دمشق لأن ذلك قد يحولها الى مساحة مفتوحة ومكشوفة لكل الأصوليات وعلى رأسها "القاعدة". وعلى أساس ذلك شيعت دمشق أن الموقف العربي، يشكل "خطاً أحمر" يحميها، وفي الوقت نفسه يسمح لها بالتحرك عبره في جميع الاتجاهات وبخاصة باتجاه لبنان على قاعدة منع اللبنانيين من محاولة بناء استقلالهم وسيادتهم وأمنهم بمعزل عنها وعن إرادتها.
اللعب على نار المأزق العراقي أميركياً، والتلويح مراراً بإمساكها لخيوط أساسية من حالة العنف. إضافة الى تحالفها مع إيران، الذي يبقى مثمراً لها في حالة التوتر لأنه يرفع إلى درجة التحالف الوثيق حاجة طهران لها، وفي حالة التوافق الأميركي ـ الايراني لأنها ستكون جزءاً من الحل فالإيرانيون لن ينسوهم. الى جانب ذلك فإن دمشق المطمئنة الى الموقف العربي منها، دعمت وضعها في الموقف الفرنسي الهادئ رغم شروطه القاسية، واختراق جبهة العزل عبر اسبانيا من جهة ومن جهة أخرى التلويح لواشنطن بعرض ميداني، على تقديم قوة عسكرية تزيد عن خمسين ألف جندي للمساهمة في قوة عربية ـ إسلامية تأخذ مكان القوات الأميركية في العراق قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة.
المتغيرات والقرارات الدولية
"المحطة العربية" الحالية التي توقف قطار الحوار اللبناني فيها لا تعني كما هو واضح، إنزال "ركاب القطار" في هذه المحطة. كل ما في الأمر كما يصف مصدر متابع للحوار "الاضطلاع" على الوضع وتحديد "المسارات". ولذلك فإن القاهرة والرياض تشددان على عدم وجود "مبادرة" عربية حتى الآن. فالواقع يؤشر الى أن مثل هذه المبادرة لم تنضج بعد، لأن المطلوب "خريطة طريق" لبنانية وقبول لبناني إجماعي بالمبادرة، وتكامل الظروف الموضوعية لتحقيق نجاحها. ففي هذا النجاح يكمن تعزيز وحدة لبنان ومنعته واستقراره في حين أن الفشل، يزيد من المخاطر ويرفع من حدة الأزمة خصوصاً الاقتصادية منها، إذ يكفي حتى الآن خسارة لبنان الكثير من منافع وعائدات واستثمارات فورة النفط.
نقطة أخيرة، وهي أنه يمكن المراهنة على عامل الوقت وعلى المتغيرات في منطقة ثوابتها قليلة. ولكن لا أحد بمعزل أيضاً عن حركة هذه المتغيرات، ومن ذلك أن معرفة النسيج السياسي اللبناني لا تحول دون "مفاجآت" كما سبق وأن حصل في 14 آذار وحتى الآن، وأن الموقف العربي المتضامن حدوده خروج لبنان من أزمته واستعادته لاستقراره، وأخيراً إن العراقيين الحساسين جداً من كل أنواع الاحتلالات والتدخلات لن يرحبوا بقوات سورية ممارساتها وصيتها معروف ومسموع جداً في العراق وغيره بسبب ثلاثين سنة من الوجود العسكري السوري في لبنان.
كما أن السؤال الأساسي الذي يجب أن يسمع العرب جوابه من دمشق هو ماذا تريد دمشق من لبنان، لأن لبنان أعلن بقرار منه في مؤتمر الحوار أنه لن يكون ممراً ولا مقراً ضد سوريا.
وأخيراً فإن لبنان كله يبقى تحت "خيمة" قرارات الأمم المتحدة 1559 و1595 1636، والآلة المتحركة بصمت للجنة التحقيق الدولية التي يرأسها سيرج براميرتس.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.