8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

"السورنة" أي أعلى درجات الفوضى هي خط الدفاع الأول عن النظام في دمشق

تبدو باريس مقتنعة وعلى مختلف أوساطها واتجاهاتها ومصادرها بأن الرئيس السوري بشار الأسد "ربح معركة المراهنة على الوقت. لكنه بالتأكيد لم يربح الحرب". واذا ما أضيف الى هذا الوضع الثقة المفرطة للنظام السوري بأن مسار التطورات يعمل لمصلحته، فان ذلك يفسر بوضوح تصرفه الحالي مع لبنان والاطراف العربية وكأنه ربح "الحرب"، مع العلم أن القاعدة الأولى والعامة في منطقة الشرق الأوسط "المضطربة والمتقلبة" هي أن كل شيء فيها هو "موقت".
وترى مختلف المصادر العربية والفرنسية المتقاطعة في باريس، "أن التاجر الدمشقي (هو الشامي) العريق، راهن منذ صدور القرار 1559 واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط على الوقت وعلى أساس أنه لن يخسر أكثر مما هو مهدد به أي مصير النظام كله، ولذلك ذهب بعيداً في رهاناته. وهو في رهانه هذا عرف بعراقة "التاجر" الدمشقي منذ معاوية بن أبي سفيان، كيف يبيع من جراب (كيس) الآخرين محتفظاً بما معه لنفسه".
أمن اللبنانيين؟
الثروة الحقيقية "للتاجر" الدمشقي، كما ترى أوساط عربية وفرنسية متقاطعة في باريس هي "الخوف". فقد نجح هذا "التاجر" في بيع "الخوف" للجميع بدءاً من اللبنانيين وصولاً الى السوريين مروراً بالولايات المتحدة الأميركية والعرب وفرنسا واسرائيل والجمهورية الاسلامية في ايران. وهذا "البيع ليس احادياً، بمعنى أن جزءاً من هذه الثروة ـ البضاعة هي لطرف دون طرف آخر، وإنما من الملاحظ ان حالة من الشراكة تقوم بين طرفين كل واحد نقيض الآخر.
ولعل أسهل "الزبائن"، رغم كل التعقيدات هم اللبنانيون. فقد باعهم أولاً الخوف القاتل على أمنهم اليومي واستقرارهم الدائم، وجعل "ثورة الأرز" موضع ترهيب وعنف يومي، حتى أصبح مطلب الأمن للبنان واللبنانيين مطلباً عربياً ودولياً بقدر ما هو مطلب لبناني. وقبل أن تأتي الذكرى الأولى لزلزال 14 شباط، كان قد أثبت لهم قبل أن يقنع العرب بذلك، أن "مفاتيح" الملفات الثلاثة المصيرية بيده وهي السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، ومستقبل الرئاسة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ومستقبل المقاومة على قاعدة الاعتراف بالسيادة اللبنانية على مزارع شبعا.
والآن، وبعد أن توضحت تفاصيل الوضع أمام اللبنانيين وأصبح ثابتاً أن الشرط الأساسي لانتخابات رئاسية جديدة والبدء ببناء "جمهورية" جديدة مكتملة الاستقلال والسيادة والحرية، هو في استعادة دمشق "لوديعتها" في بعبدا، الى جانب دور القيادة العامة في اغلاق أنفاق الناعمة ومعسكرات البقاع، وأخيراً البدء بترسيم الحدود، أصبح "التاجر" الدمشقي الذي كان يطالب في البداية بوقف الحملة الاعلامية هذه في لبنان، يطالب بأن يقدم الرئيس السنيورة المجرمين الذين اغتالوا العلاقات السورية ـ اللبنانية الى القضاء"، وكأن الذين "اغتالوا" هذه العلاقات هم اللبنانيون.
"السورنة"!
ولعل التحول الذي تعيشه سوريا على الصعيد الشعبي من النظام يؤكد مدى نجاح "التاجر الدمشقي". فبعد أن كانت سوريا تشعر بالمرارة لأن "ربيع" دمشق تحول الى "خريف" بارد بسرعة كبيرة تحت شعار وجوب عدم حرق المراحل، اذا بالمظاهرات التي وان كانت منظمة حزبياً وسياسياً، تساند النظام نفسه. وهذا التحول وإن لم يكن باعتراف المصادر نفسها في باريس "عميقا"، الا أنه قائم. وتفسير ذلك أنه نجح في تصوير "ثورة الأرز" ونتيجة لبعض لحظات الغضب ثورة عنصرية ضد كل السوريين. ودون الدخول في التفاصيل الاعلامية المملة لهذه الحملة، فان الحملة حققت نجاحات ملحوظة. ثم وهو الاخطر، وضع السوريين جميعهم أمام خطر مرعب يقوم على امكانية سقوط سوريا في الفراغ اذا ما تعرض النظام لهزة فكيف بزلزال يطيحه من الخارج. وهذا الشرك يقوم على امكانية قيام حروب داخلية اين منها "العرقنة" حالياً. فالأرض مهيأة لذلك، فقد سبق وان اشتبك الدروز مع البدو، والأكراد مع السلطة وهم أصبحوا لا يرفعون العلم السوري في مظاهراتهم متأثرين بوضعهم وبانتصارات اخوتهم في كردستان العراق. كما ان اسقاط النظام ترجمته اخراج العلويين من السلطة، ومثال اخراج السنة في العراق من السلطة نتيجة لإسقاط نظام صدام حسين حاضر في الذهن. واذا ما اضيف الى هذا "الكوكتيل" المتفجر خطر انتشار الارهاب الاسلامي الأصولي المتمثل بالزرقاوي في العراق، وأخيراً الأخطار الخارجية بدءآً من اسرائيل وصولاً الى تركيا، فان "السورنة" على قياس "العرقنة" ستدخل التاريخ الحديث كمثال لدرجة جديدة اعلى من "البلقنة" و"اللبننة"، سيعاني منها العالم كله.
مأزق النظام العربي
أما العرب، فان ما باعهم "التاجر الدمشقي" من "جراب الخوف" فحدّث عنه ولا حرج. فقد وضع "النظام العربي" كله وليس نظاماً معيناً أمام معادلة ان سقوط النظام السوري سواء تحت ضغط شعبي داخلي أو ضغوط خارجية سيكون مثالاً حياً أمامهم، وان مبدأ "قتلت يوم قتل الثور الأسود" هو المسار الطبيعي للتطورات.
أما الأخطر من هذا، لأنه يبقى احتمالاً نظرياً، فهو التحول الميداني، اي دخول "العرقنة" الى سوريا، وتصديرها في حالة يمكن توصيفها على أنها "أعلى درجات الفوضى والقتل" وهي "السورنة". وخطورة هذه الوضعية الجديدة، انها ستفتح ابواب الجحيم باتجاه تنفيذ "مؤامرة قيام الهلال الشيعي"، الذي سيفرض على المنطقة على أساس مبدأ "الفيدراليات" حتى داخل الدولة الواحدة أو ربما في خلق دول جديدة كل واحدة منها "قنبلة" في وجه الأخرى.
ولعل خصوصية العلاقة بالجمهورية الاسلامية في ايران، تضع الكثير من النقاط على حروف تصرفات "التاجر الدمشقي" ذلك ان لا اسرار في العلاقة بين دمشق وطهران، وهي سياسية واقتصادية وعسكرية. الجديد في هذه العلاقة، ان وجود دمشق وطهران وفي وقت واحد ولأسباب مختلفة بالكامل تتعلق بلبنان والملف النووي في زاوية مصيرية، شكّلا تحالفاً قوياً أعطى لدمشق أكثر مما منح بطبيعة الحال لطهران. وقد نجحت دمشق في "بيع" الجميع وخاصة العرب هذا التحالف، فقدمته على اساس أنه في "خدمتها" وهو "يعملق" حضورها، وفي الوقت نفسه قدمت للعرب كما فعلت أثناء حرب الخليج الأولى على أساس أنها "الضامنة" من التطرف الإيراني، وهي الوحيدة القادرة على "عقلنته".
وفي الدائرة الاقليمية تبقى اسرائيل، التي وجدت نفسها تحت "مطرقة" الخوف من "السورنة"، وسقوط الاستقرار مع ما يعنيه ذلك من اخطار مباشرة عليها خاصة اذا ما دخل "حزب الله" في الحالة الجديدة، والخوف من هذه "المطرقة" هو الذي دفعها الى معارضة سقوط النظام السوري أو حتى تعريضه للخطر مهما كانت الدواعي والأسباب! وكانت النتيجة إحداث تحول ظاهري في مواقف بعض القوى المحافظة والمتشددة في الولايات المتحدة الأميركية باتجاه الاعتدال تحت شعار وجوب تأمين البديل الضامن للاستقرار.
واشنطن والحرب العراقية
يبقى الغرب، وعماده واشنطن وباريس، ولا شك ان دمشق عرفت ببراعة شديدة كيف تبيع لهما من "جراب" العراق. ففي بغداد حيث تقف واشنطن بين "مطرقة" الرغبة في الانسحاب بشرف "وسندان" الوضع الدامي اليومي، استطاعت دمشق أن تقدم نفسها كلاعب اساسي في ضبط الحدود ووقف التسلل وفي انضباط السنة، وتجربة الانتخابات التشريعية الأخيرة خير دليل على ذلك. وفي الوقت نفسه تقديم تحالفها مع طهران وكأنه في خدمة أي دور مستقبلي مطلوب. ومهما كانت وقائع كل ذلك قابلة للنقض فإن ما حصل قد حصل، وقد اضطرت واشنطن على الأقل للبحث في كيفية التعامل مع دمشق بدلاً من أن تكون سياستها كما كانت طوال العام الماضي "مطرقة" لا تتوقف من الطرق بها على "رأس" النظام!
أما باريس، فان العلاقة العاطفية للرئيس جاك شيراك بلبنان وبالشهيد رفيق الحريري، تبقى فريدة ومميزة، لكنها ليست استثناء سوى في حرارتها لأن علاقة باريس ببيروت علاقة تاريخية وعميقة. لكن دمشق عرفت كيف تلعب على باريس من موقعين: الأول مخاطر عدم استقرار لبنان والمنطقة، والثاني الموقف العربي الضاغط تحت مبدأ ترك ما للعرب للعرب يحلون بأنفسهم أمورهم حاضراً ومستقبلاً خاصة على صعيد استمرار الأنظمة. اضافة الى ذلك فإن باريس المتعاطفة حالياً مع واشنطن في مأزق العراق، تتفهم الموقف الأميركي وإن كانت ترفض بشكل كامل ومطلق مقايضته بالملف اللبناني.
هذه هي "خريطة" حالة "التاجر الدمشقي" كما تراها مصادر عربية وفرنسية في باريس. يبقى أن هذه التحولات كما ترى المصادر نفسها لم تكتمل، والمراهنة السورية على الوقت قد تنقلب عليها فتصبح ضدها كما كان الوضع في السابق، خاصة وأن التحقيق في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم ينته والمتابعة الدولية لم تتوقف. لكن ذلك لا يحول كما تقول المصادر نفسها دون وجوب وقوف مختلف القوى وخاصة اللبنانية منها وقفة مع نفسها قبل غيرها تتم خلالها قراءة الوضع وافرازاته لصياغة "خريطة طريق" للفترة المقبلة تكون واضحة ومحددة من جميع الزوايا وخاصة بكل ما يتعلق بموازين القوى وتشابكات العلاقات والمصالح.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00