كل شيء كان مدروساً، في اللقاء الطويل بين الرئيس جاك شيراك والنائب سعد الحريري رئيس كتلة "المستقبل". فقد تعمّد الرئيس الفرنسي ملاقاة النائب الحريري على درج الأليزيه، ليؤكد مرة أخرى "تواصلية خصوصية العلاقة وحرارتها، من الأب الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى ابنه حامل ارثه وقضيته". وتجاوز مدة اللقاء الساعتين ونصف الساعة، يؤشر الى ان البحث قد تناول مختلف التفاصيل المتعلقة بتطورات الوضع اللبناني، خاصة بكل ما يتعلق بالحوار اللبناني ـ اللبناني وآفاقه والايجابيات التي توصل اليها، والعقبات التي تواجهه. هذا من حيث طبيعة اللقاء، أما من حيث توقيته، فإن شيراك الغارق الى قمة رأسه في الأزمة السياسية والاجتماعية والنقابية التي تجتاح فرنسا منذ أسابيع عديدة أراد التشديد على أن كل متاعبه الداخلية، لا تبعد أنظاره عن متابعة الملف اللبناني.
"خريطة" تحرّك الأليزيه
وتضع مصادر سياسية وديبلوماسية فرنسية وعربية مطلعة، بعض النقاط على حروف اهتمام شيراك بالملف اللبناني، فتقول: "لا شك في ان الرئيس الفرنسي، قد تعب كما ان تراجع شعبيته والبلاد على أبواب الانتخابات الرئاسية أي قبل ولايته الرئاسية بفترة قصيرة قد اضعفه لكن ذلك لا يغير شيئاً من واقع دستور الجمهورية الخامسة الذي يعطيه حق تسيير وزارتي السيادة أي الخارجية والدفاع. ولذلك فإن شؤون السياسة الخارجية تبقى من اختصاص الأليزيه وسلطاته. ولذلك فإن شيراك يرسم سياسته والكي دورسيه مقرّ وزارة الخارجية ينفذ هذه السياسة مهما بدت له متشددة".
من هنا يمكن اختصار الوصف لدور الأليزيه "بأنه أكثر حدّة في تعامله مع الملف اللبناني مثلاً في حين ان وزارة الخارجية أكثر ديبلوماسية في صياغة خطابها وفي تنفيذ آلية القرارات المتخذة".
وتذهب هذه الأوساط نفسها الى صياغة "خريطة" لتحرك الأليزيه فتقول: إن شيراك الذي يملك أجندة ثرية من العلاقات الشخصية مع زعماء منطقة الشرق الأوسط عمرها ثلاثة عقود، يعرف أدق تفاصيل الوضع ويعمل لمتابعة هذه المعرفة يومياً. ومن ذلك انه في الملف اللبناني يعلم جيداً، ان سقوط مرحلة الوصاية السورية، وضع لبنان في رعاية مربع عربي دولي مشكل من الرياض والقاهرة وواشنطن وباريس، ولذلك يلاحق تطورات مواقف شركائه في العواصم الثلاثة وهو بعد أن زار الرياض والتقى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز، سيلتقي الرئيس حسني مبارك في 19 و20 من الشهر الجاري. أما ما يتعلق بواشنطن فلها قصة أخرى لعل في تفاصيلها تكمن معرفة الوضع واحتمالاته".
لبنان مفتاح الوصل
وترى المصادر نفسها في باريس: ان لبنان شكل "المفتاح" لوصل ما انقطع في العلاقات بين واشنطن وباريس. وكانت قمة 6 حزيران في النورماندي عام 2004 في الذكرى الستين لإنزال الحلفاء، بين الرئيسين بوش وشيراك بداية لزواج متعة جديد كان "مهره" الاتفاق على مساعدة انجاح نموذج الديموقراطية في لبنان. ثم جاء القرار 1559 ليثبت هذا "الزواج". ويلعب دومانتنيي المستشار السياسي لشيراك الدور الأول في محاولة نقل هذا الزواج من حالة المتعة الى حالة الزواج الكاثوليكي رغم صعوبة الأمر بسبب طبيعة الفرنسيين المعادية للسياسة الأميركية". وتقول هذه الأوساط إن دومانتنيي زار واشنطن خلال 13 شهراً الماضية سبع مرات التقى خلالها هادلي مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض وكونداليزا رايس وزيرة الخارجية لا تتوانى عن تأخير سفرها للقائه. لكن هذا الاتفاق على إنجاح "ثورة الأرز" أو "انتفاضة الاستقلال" في لبنان بين واشنطن وباريس، يحمل في طيّاته تباعداً في الأسباب والتوجهات. ففي حين أن باريس تتعامل مع الملف اللبناني كما تقول المصادر نفسها باستقلالية تامة عن باقي ملفات منطقة الشرق الأوسط الغنية بها وبالنزاعات، فإن واشنطن تهتم بلبنان انطلاقاً من تأثيره على موقف سوريا فما يعنيها أولاً وأخيراً العراق ومواقف دول المنطقة من هذا الملف الذي يحرق أصابعها. ولذلك فإن واشنطن مستعدة للذهاب بعيداً سواء في تصعيد الموقف أو تهدئته مع دمشق انطلاقاً من تقلبات حرارة المواقف ونتائجها في العراق".
لكن رغم هذا اليقين الكامل، تتعامل واشنطن مع الحالة اللبنانية انطلاقاً من ترابط الملفات، فإن مصدراً ديبلوماسياً عربياً يؤكد بيقين مستند إلى جملة معلومات من مصادر مختلفة في باريس ومنها الأميركيون "أن لا حل في المنطقة على ظهر لبنان". ويكمل مصدر ديبلوماسي فرنسي مطلع على الملف اللبناني ذلك بقوله: "إن الشعور اللبناني بالقلق من وقوع مقايضة أميركية بين لبنان والعراق لمصلحة سوريا، هو سراب، لا يجب الأخذ به ولا البناء عليه".
ويضيف المصدر نفسه "صحيح أن الوضع وكأنه أمام طريق مسدود وأن الحلول غير ممكنة رغم اتفاق اللبنانيين عليها بدون تعامل سوري ايجابي معها، في وقت تريد فيه سوريا أن تطمئن إلى موقعها في لبنان الجديد وقيام علاقات مميزة به من ضمنها وحدة المسار في المفاوضات مع إسرائيل والحصول على التزام واضح بكف يد الخارج عنها، وتثبيت الاستقرار لديها، فإن اتفاقاً فرنسياً أميركياً يقوم على قاعدة واضحة وهي عدم إعطاء سوريا ما لا يملكونه في لبنان من جهة، وما لا تستحقه في المنطقة من جهة اخرى".
ووسط هذا الاتفاق الفرنسي ـ الأميركي الذي يمتد إلى باقي الملفات في الشرق الأوسط حيث تعتمد باريس الصمت عندما لا يمكنها الموافقة كما في العراق، أو المطالبة، كما يذكر مصدر ديبلوماسي في باريس، بوضع استراتيجية جديدة لمواجهة تطورات الملف الإيراني والاتفاق عليها قبل تنفيذها، فإن الموقف العربي وتحديداً السعودي ـ المصري الذي تعمل قطر على الدخول إليه يبدو أساسياً في كل القضايا.
الموقف العربي الضاغط
وترى أوساط فرنسية وعربية مطلعة في باريس، "أن الفرنسيين أكثر تأثراً بالمواقف العربية من الأميركيين" وأن المشكلة التي تواجهها باريس هي تشوش فكر العرب من كل ما يحصل أو ربما بسبب ما يحصل في المنطقة ما ينعكس على صياغة الموقف الفرنسي بوضوح". وتضيف هذه الأوساط "أن القاهرة تتعامل مع الملف اللبناني ـ السوري على حدة انطلاقاً من قواعد الجغرافيا السياسية فإن الدول العربية الاخرى تتعامل معه من خلال وضع العراق وتطوراته وإنعكاسات ذلك على الاستقرار في المنطقة".
ولذلك فإن النصيحة التي تتلقاها باريس دائماً من العواصم العربية هي: "اهتموا بواشنطن ونحن نهتم بدمشق". وتفصيل هذه الدعوة هي: اعملوا لتهدئة الموقف الأميركي من سوريا ونحن نعمل لإقناع دمشق بتعديل موقفها في لبنان ومساعدته في الخروج من وضعه الحالي".
وأمام هذا الوضع، يرى مصدر مطلع في باريس، "أن قواعد اللعبة انقلبت، فقد اعتمدت دمشق على التعامل مع جنرال الوقت مستخدمة كل أوراقها الضاغطة. والآن جاء دور الآخرين للعب على الوقت، حتى تتغير المعادلات من جديد، ولذلك فإن الإليزيه الذي يتلقى تقارير الخارجية والدفاع تخلص دوماً بضرورة مراعاة الموقف العربي، الذي يعاني القلق المشروع على الوضع الاقليمي وضرورة اعادة صياغة العلاقات اللبنانية ـ السورية بعيداً من مسار التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي لا رجعة عنه، يعتمد الآن سياسة الانتظار المبني على حسابات ميدانية دقيقة". ذلك ان باريس كما يضيف المصدر نفسه، تعلم أن تقرير رود لارسن سيكون "واقعياً متشدداً خاصة بما يتعلق باستمرار التدخل السوري في لبنان ومسألة تهريب السلاح عبر الحدود اليه، ثم سيأتي تقرير براميرتس العملي والدقيق قضائياً. ومن الآن وحتى تظهر وقائع في التحقيق يمكن البناء عليها سياسياً، فإن الحوار اللبناني ـ اللبناني، الذي اصبح ما يشبه مؤسسة لها شروطها وقواعدها يجب أن يستمر".
ولا ينسى المصدر المطلع من اضافة عامل أساسي على أهمية المراهنة من جديد على عامل الوقت وهو ان واشنطن التي فرمَلت حالياً موقفها التصعيدي من دمشق، لن تتأخر أمام تطورات الملف النووي الايراني، وصعوبة الدخول في مواجهة مع طهران، من الالتفاف على التحالف الايراني ـ السوري وضرب حلقته الضعيفة اي دمشق وذلك برفع وتيرة الضغوط عليه لتقديم مزيد من التنازلات خاصة في لبنان، لأن لواشنطن مصلحة استراتيجية حالياً في تعميق تحالفها مع باريس بكل ما يتعلق بالملف الايراني. وهنا لا بد ان تقع المقايضة المعكوسة هذه المرة بين باريس وواشنطن حول الموقف من ايران في لبنان بدلاً من أن تكون المقايضة بين لبنان والعراق".
باريس تدعو اللبنانيين الذين يزورونها على مختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم الى عدم اليأس رغم مشروعية قلقهم. ولتأكيد حقيقة هذه الدعوة فإن مصدراً عربياً في باريس يقول "عندما يعترف مسؤول سوري رفيع متابع للملف اللبناني ـ العراقي ـ الايراني، بأن العاصفة قد هدأت لكنها لم تمر، فإن ذلك يعني ان دمشق بدورها قلقة من المفاجآت التي قد يحملها لها جنرال الوقت".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.