ارتياح دمشق للتحولات وشعورها "بهدوء العاصفة" عليها، لا يجعلها تنام على حرير وضعها، فدمشق تعرف أن "الحرب" ما زالت في بداياتها، وأن أولى شروط الخروج نهائياً من "عين الاعصار"، هو في تحقيق مزيد من ربح النقاط، سواء في استمرار مسار تدعيم "خطوطها الدفاعية" أو في النجاح في تقطيع الوقت. ولأن دمشق كما يقول سياسي مخضرم: "لا تجيد حروب المواجهة الشاملة، فإنها تعتمد دائماً تكتيكات حرب العصابات، أي الانكفاء أمام هجوم الخصم، والتمدد والانتشار مقدمة للهجوم اثناء تراجع الخصم نفسه".
ويتابع السياسي المخضرم الذي يعرف دمشق جيداً: "أن النظام الذي بدا مزنوقاً في وسط دائرة النار بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، داخلياً وعربياً ودولياً، يشعر اليوم، بأنه نجح في تأليب الرأي العام السوري لمصلحته وإلى جانبه بحجة أن سوريا كلها موضع هجوم أميركي ـ فرنسي، ومن ليس معه فهو حكماً مع هذا الحلف الخارجي، وهو نجح في استعادة العرب إلى جانبه والدليل ان الرئيس حسني مبارك قال لنواب مصريين: سنقف إلى جانب سوريا حتى تتخطى الأزمة. أما دولياً فالمهادنة والليونة والصبر حلوا مكان سياسة "المطرقة اليومية"، وما ذلك إلا لأن النظام عرف كيف يوظف حلفه مع إيران، ونشاطه في العراق لمصلحته، وفي الوقت المناسب، مما دفع لبنان كما قال النائب وليد جنبلاط لأن يصبح أسير معادلة كبيرة في المنطقة. إلى جانب ذلك، فإن دمشق تتعامل مع واشنطن وباريس، على أساس أن المفاوضات الحقيقية ستكون بغياب الرئيس جاك شيراك في مطلع صيف 2007، ومع بديل الرئيس جورج بوش في البيت الأبيض بعد ذلك بأشهر".
"خريطة الطريق" السورية
وفي محاولة لقراءة "خريطة الطريق" التي وضعتها دمشق لنفسها، لاستعادة بعض ما خسرته في لبنان، وفي إطار قاعدة ذهبية أصبحت تعرفها وتعمل بها وهي انه لا عودة عسكرية وأمنية لها كما في السابق، فإن دمشق وكما تتفق مصادر مطلعة مع السياسي المخضرم، استمرت في التحرك داخل لبنان منذ لحظة خروجها العسكري انطلاقاً من معرفتها الدقيقة بنسيج الحياة السياسية اللبنانية، التي عملت على "حياكته" بكل الوسائل والأدوات إلى درجة انتاج تلاوين طبقات سياسية وأمنية واقتصادية حسب حاجاتها".
وتشدّد هذه المصادر وخاصة السياسي المخضرم على القول: "يجب عدم وضع كل ما يجري في إطار المؤامرة، فما حصل ويحصل هو وجود خطة سورية ناشطة وفاعلة تحرك فيها "بيادقها" الذين صنعتهم من جهة، وتستثمر حركة حلفائها الذين اسقطتهم أو ابعدتهم "انتفاضة الاستقلال"، مستغلة في ذلك طموحاتهم الجريحة أو رغبتهم بالثأر واسترجاع ما اعتبروه حقاً لهم. إلى جانب ذلك، فإن دمشق حركت بقوة وكثافة "بيادقها" وحلفاءها لاستثمار كل خطأ تكتيكي ولو صغير وقعت فيه قوى 14 آذار لخدمة مسارها في إطار "خريطة الطريق" التي رسمتها لنفسها سابقاً.
وفي محاولة لرصد المسار السوري في هذه المرحلة تعدد هذه المصادر المطلعة تفاصيله نقطة فنقطة:
اعتمدت دمشق منذ بداية التحقيق الدولي وخاصة مع صدور التقرير الأول لديتليف ميليس "سياسة التشكيك" بكل ما قام به وما انتجه، لانه قانونياً لا يمكن البناء على ما هو مشكوك به. وبذلك تتم إلغاء مفاعيل اتهام سوريا سواء بالتحريض أو التخطيط أو التنفيذ أو التسهيل في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه.
ولاستكمال هذا التشكيك الذي تعرض لتراجع بسبب تكتم المحقق سيرج براميرتس ومهنيته الثابتة باعتراف الجميع، فإن الهجوم مستمر في عملية البناء عليه من خلال تكرار الرئيس إميل لحود مطالبته بإطلاق سراح الضباط الأربعة المعتقلين. وبطبيعة الحال فإن عملية اطلاق سراحهم يلحقها اسقاط كل المقولات والتشكيك من قريب أو بعيد لأي دور محتمل أو ممكن "لوديعة" دمشق في بعبدا.
ومن الطبيعي أن انهاء لحود لولايته الممدة بالاكراه ستجري بهدوء، ومحاولة جادة لاستعادته دوره ومكانته خاصة لدى المسيحيين.
"الخوف من انعدام الأمن"
ابقاء الوضع اللبناني في حالة غليان على نار احتمالات سقوط الأمن في أي لحظة وهو ما عبّر عنه تيري رود لارسن بدقة في تقريره بأن جواً عاماً من الخوف وانعدام الأمن ما زال سائداً في لبنان. والمعروف في هذا الاطار، انه لولا مؤتمر الحوار في البرلمان، لاستمر جهل بعض الاطراف بعضها ببعض بسبب تباعد الجزر الأمنية التي خلقتها حال عدم الاستقرار والتفجيرات المتلاحقة بكل ما يؤدي ذلك الى ارباكات في التخاطب عبر المبعوثين والاعلام.
الدفع باتجاه حصول فرز جديد للقوى والتحالفات القائمة خاصة بعد 28 نيسان الجاري موعد جلسة الحوار التي يراد لها أن تكون الأخيرة، علماً أن العرب والغرب يدفعون باتجاه استمراريتها لأنها اصبحت وسيلة اساسية لتنفيس الاحتقان داخل الشارع اللبناني. وعملية الفرز هذه تعمل عليها دمشق بقوة سواء عبر التحريض على سقوط فرصة أي احتمال لهذه الشخصية أو تلك في عملية اختيار "مرشح" قوى 14 آذار للرئاسة، أو بالتلويح "بهدايا" مستقبلية في الأدوار والمواقع نتيجة للنجاح بإنقلاب الأكثرية الى أقلية والعكس صحيح.
ولذا فان اتجاه قوى14 آذار نحو توحيد مواقفها وبرامجها في بيان او خطة واضحة ومحددة هو الرد المباشر على مثل هذا التوجه السوري المدعوم من الحلفاء ومن الناشطين من "البيادق".
عودة "الوجوه السورية" الى التحرك علانية سياسياً واعلامياً. وهذه العودة تجري على قياس كل "وجه" من هذه الوجوه بحسب حجمه ودوره ومكانته. وجميع هذه التحركات هي في اطار حلف "جبهة خلاص" واسعة ضد قوى 14 آذار تحت شعار محاربة الانفراد بالسلطة والمطالبة بالشراكة. ويبدو حتى الآن أن قيام هذه الجبهة ومهما كان الدور السوري وأعمالها منوط "بالمشاركة الشيعية الممثلة بحزب الله وحركة أمل". وطالما أن هذه المشاركة معلقة على شرط السقوط في فخ الانحياز الكامل المؤدي للطلاق مع قوى 14 آذار وخاصة مع رئيس كتلة "المستقبل" النائب سعد الحريري مستقبلاً، فإن هذه الجبهة ستشكو من العرج التمثيلي الذي سيقعدها بالتأكيد عن الممارسة والانتاج.
ضد صدقية السنيورة
العمل على اضعاف الرئيس فؤاد السنيورة عبر ضرب مصداقيته من جهة، والايحاء بوجود شرخ عميق في علاقته مع رئيس كتلة المستقبل النائب سعد الحريري. وكل ذلك بهدف الدفع باتجاه تغيير وزاري يؤدي مباشرة الى أزمة وزارية عميقة تحت وطأة المطالب المتناقضة للقوى السياسية من جهة والعمل باتجاه اختيار رئيس جديد للوزراء من خارج كتلة المستقبل وهذا كله لا بد ان يتحول الى قنبلة موقوتة تكون مفاعيلها في اتجاهات عدة.
وفي مواجهة هذا النشاط، فإن مسألة احتضان ورعاية قوى 14 آذار للرئيس فؤاد السنيورة هي القائمة والتي سيتم تعزيزها في المرحلة المقبلة خاصة بعد ان أثبت قدرته على حمل اعباء هذه المرحلة الانتقالية الصعبة والدقيقة باقتدار وقوة.
تحضير سلسلة من الاضرابات العمالية لضرب الحكومة ورئيسها السنيورة شعبياً، وذلك بحجة سياسة فرض زيادة الضرائب او الرضوخ لمفاعيل الازمة الاقتصادية، خاصة في ظل انخفاض الآمال بنجاح انعقاد مؤتمر بيروت ـ واحد بعد ان تأخرت الاصلاحات.
وفي مواجهة هذا التحرك المكشوف لتعميق الازمة الاقتصادية، التي لن تشغل الحكومة او تسقطها فقط وانما سترفع من حجم الخسائر المالية والاقتصادية للبنانيين عامة، فانه يجري كسر "مفتاح" الاضرابات وهو عدم زيادة الضرائب والاسراع في تنفيذ الورقة الاقتصادية، وتحميل اي طرف يفجر الوضع مسؤولية ما سيحصل.
الى ذلك، فإن "المساكنة" مع الرئيس اميل لحود اذا ما فرضتها احكام ما بعد جلسة 28 نيسان، لن تكون مجرد مرحلة لتقطيع الوقت، وانما للدفع باتجاه تنفيذ كل القرارات المعلقة من اقتصادية او تعيينات قضائية وادارية او غيرها وذلك بحكم وجود اكثرية الثلثين داخل الحكومة من جهة والتفاهم والتعاون مع الوزراء الخمسة لحزب الله وأمل من جهة اخرى.
الايحاء بأن تعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية نتيجة لافتقاد الاكثرية لثلثي النواب زائد واحد المطلوب لاكتمال النصاب القانوني لانعقاد المجلس النيابي واتمام اجراءات الانتخاب، ليس ازمة موقتة، لأن هذه الاكثرية ستواجه المأزق نفسه بعد عام في نهاية ولاية لحود، وانه اذا كان يوجد اي اجتهاد حول مسألة النصاب القانوني فإن مفتاحه هو الرئيس نبيه بري. ولذلك فان النتيجة الدستورية لمثل هذا الاحتمال تسلم مجلس الوزراء ورئيسه رئاسة الجمهورية الى حين اجراء انتخابات رئاسية.
وفي محاولة لتوضيح صورة مثل هذا التوجه وخطورته خاصة اذا ما استخدم ذلك سلاحاً للدفع باتجاه انتخابات تشريعية مبكرة، فإن احد السياسيين سأل الجنرال ميشال عون عما اذا كان يتحمل مسؤولية ذلك، وما اذا كان للموارنة تحديداً وللمسيحيين عامة مصلحة في ان يتولى رئيس الحكومة رئاسة الجمهورية في بعبدا ولو لفترة اربعين يوماً أو اكثر؟
مشكلة دمشق مزدوجة، فهي ستبقى تحت المراقبة الدولية وفي قلب دائرة النار التي تتحكم بها ايران في مواجهتها مع الولايات المتحدة من جهة، ومن جهة اخرى فإن "خريطة الطريق" التي تعمل وتنشط على اساسها في لبنان مكشوفة للبنانيين وخاصة لقوى 14 آذار. وان عودتها حتى بالنسبة لحلفائها موضوعة في اطار "تحالف استراتيجي فقط يأخذ بعين الاعتبار عدم الخلط مع كل ما هو شأن داخلي". اما بالنسبة لباقي اللبنانيين وقوى 14 آذار منهم فإن ما يريدونه هو ان يكون لبنان سيداً حراً مستقلاً، يحكم نفسه بنفسه، لا ان يحكم من دمشق مباشرة او مداورة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.