الخوف الكبير لدى اللبنانيين، كان وما زال أن تقايض الولايات المتحدة الأميركية لبنان بالعراق مع سوريا، ورغم كل النفي الأميركي لهذا الاحتمال، ورغم وصف باريس هذا الاحتمال "بالسراب"، فإن هذا الخوف لم يخف، خصوصاً أن لبنان بنظامه "الهش" الذي لم يكتمل تشكيله ولا تثبيته بعد 14 آذار، ما زال في "عين الإعصار". وجاءت تطورات "رقص" العالم وليس منطقة الشرق الأوسط وحدها على وقع الملف النووي الإيراني واحتمالات المواجهة الأميركية ـ الإيرانية، لتزيد من حجم القلق المشروع للبنانيين، ومما رفع من وتيرة هذا القلق، أن لبنان شكّل "الحلقة الضعيفة" في كل هذه المواجهة، إن بسبب الجغرافيا أو بسبب شبكة التحالفات بين دمشق و"حزب الله" وحركة "حماس"، أو لأن لبنان يريد الخروج سالماً من "عين الإعصار" وفي الوقت نفسه الحصول نهائياً على استقلاله وسيادته وحريته بأقل كلفة ممكنة. ومن الواضح أن لبنان وجد نفسه بين "مطرقة" الوضع الاقليمي والدولي وفي صلبها علاقته مع سوريا، و"سندان" طموحاته المشروعة والشرعية وكل ذلك في سباق مع الوقت والمتغيرات!.
السيناريوات الثلاثة
ولا شك أن تطورات المواجهة بين طهران وواشنطن ومعهما الحلقة "الوسيطة" دمشق كما يصفها مصدر متابع للوضع بدقة، تتحكم بقوة بمستقبل لبنان واللبنانيين. ولذا فإن الدراسة الدقيقة والعميقة لسيناريوات الوضع، تمكن من الإضاءة على الوضع اللبناني كما يقول المصدر نفسه، خصوصاً بعدما ثبت للجميع أن دمشق تمسك بقوة بأرقام المفاتيح السرية وتجعل عدم الكشف عنها لفتح الملفات أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً دون أن تأخذ الثمن الذي تراه مناسباً لها. ويمكن القول إن ثلاث سيناريوات ممكنة وواقعية تؤطر الوضع كله، وتفاصيل كل سيناريو ستضع الكثير من النقاط على حروف العلاقات بين الأطراف المعنية وهي إيران وسوريا ولبنان.
* السيناريو الأول، وهو الذي يبقي الوضع الحالي مستمراً أي "ستاتيكو"، وهذا الوضع هو ما أصبح يطلق عليه الخبراء "الحرب الباردة" بين طهران وواشنطن، وذلك تشبيهاً بزمن "الحرب الباردة" بين موسكو وواشنطن والتي استمرت أكثر من خمسين عاماً. ومن أسس وحيثيات تلك الحرب التي عانى منها العالم كله، قيام الحروب بالواسطة، أي الحروب بين قوى اقليمية تكون الخسائر فيها رصيد من الدول الاقليمية المتواجهة وحسابات الربح والخسارة بالنقاط بين الجبارين، ولذلك وقعت أكثر من مئة حرب من هذا النوع خلال نصف قرن. والجانب الثاني من تلك الحرب عمليات الردع والاستيعاب والعمل على تحقيق "خروقات تدريجية" في جبهة كل خصم من الخصمين تمهيداً للمعركة الأخيرة.
هذا الوضع برأي الخبراء لن يتكرر زمنياً أي أن يدوم عقوداً أو حتى لسنوات فقد تغيرت المراحل والمواقع والأطراف والأهم مسألة التوازن بين القوى.
قواعد الحرب الباردة
والمهم في كل ذلك ما يعني لبنان واللبنانيين، وهنا يرى البعض أن قواعد الحرب الباردة تفرض الضرب بالواسطة وتحقيق خروق، وفي هذا الإطار، فإن المرشح لتلقي المزيد من الضغوط المباشرة أو غير المباشرة هي الحلقة "الوسيطة" أي دمشق. ومن المنطقي وفي ظل كل أحداث ما بعد زلزال 14 شباط أن يكون الضغط عبر "الخاصرة الضعيفة" لدمشق وهي لبنان. وليس من الضروري أن يتم ذلك عبر تحركات أو مواقف لبنانية، وإنما عبر المجتمع الدولي "الذي لم يقتنع ببراءة دمشق حتى الآن، ولم يرَ تحسناً في سلوكها" كما يرى مصدر فرنسي، وهو ما كان قد اتفق عليه بديلاً مما كان مطروحاً حول تغيير النظام.
والمشكلة أن دمشق بدلاً من أن تترك "العاصفة" تمر، تصعّد مواقفها وتظهر "لامبالاة" من الموقف الدولي منها، وذلك نتيجة "لاستقوائها" بالعراق والأزمة الأميركية فيه، وفي التصعيد المستمر والمتنامي بين حليفتها طهران وواشنطن، وأخيراً التحصن بالموقف العربي الرافض لأي ضغوط تكسر الاستقرار وتعرض المنطقة لاحتمال "عرقنة" جديدة مفتوحة على كل المخاطر. ولذلك فإن المجتمع الدولي وتحديداً واشنطن وباريس سترفعان من درجة ضغطهما على دمشق عبر التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري بهدف "فتح الأبواب أمامه، للتوصل الى كشف الحقيقة"، وملاحقتها أمام مجلس الأمن للفرض عليها تنفيذ ما أجمع عليه اللبنانيون في مؤتمر الحوار.
ومن المنطقي أيضاً، أن يكون بديل دمشق في هذه الحالة العمل على خلق كل الوسائل والظروف لإقناع اللبنانيين قوى وأحزاباً وحكومة أن لا أحد يفتح الطريق المسدود أمامهم غير العودة الى أحضانها والانخراط معها من جديد في وحدة المسار والمصير، ومن وسائل ذلك التصويب على الحكومة كما يرى مصدر من قوى 14 آذار، بدلاً من تصويب أداء الحكومة، وذلك بهدف إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة والدفع باتجاه أزمة سياسية كبيرة يكون حلها في التعجيل بالدعوة لانتخابات نيابية جديدة. والهدف الأساسي لذلك قلب معادلة الأكثرية القائمة وجعل الأقلية الحالية أكثرية تأتي برئيس جديد يعمل حسب "قديم" الرئيس اميل لحود.
ومن الطبيعي أمام مثل هذه الاستراتيجية الناشطة جداً والظاهرة في إخراج قوى وسياسيين من غرف العناية الفائقة الى واجهة التحركات والتصريحات، أن تتحرك الأكثرية النائمة، بهدف اثبات أنها ليست وهمية وإنما هي فاعلة ومؤثرة وقادرة على قلب الطاولة وعدم السماح بضربها.
الحرب غير المحدودة!
* السيناريو الثاني، المواجهة المسلحة بين الأميركيين والإيرانيين، وهذا الاحتمال صعب جداً إنما ليس مستحيلاً. ويعود ذلك إلى أن واشنطن التي لديها إمكانات عسكرية غير محدودة وحضور سياسي كاسح، تبدو خياراتها في المواجهة محدودة. فهي إما ستضرب ضربة جراحية محدودة، أثرها سيبقى إعلامياً، وهي لا شك ستقوي إيران ومعها سوريا وحزب الله وحماس لأنها ستجبر القوى الأخرى إما على الصمت أو الانخراط في حملتها في مواجهة "العدو الأميركي"، وكلا الخيارين مر.
أو تكون الضربة عسكرية وشاملة وهنا السؤال ماذا ستفعل دمشق.. وهي التي اعتادت القتال خارج حدودها وبقوى حلفائها ورجالها؟.. وهي إذا بقيت صامتة خسرت حليفتها ودفعت ثمن نتائج المواجهة وإن دخلتها فلا أحد يستطيع تقدير الأعباء والنتائج. وبدوره، هل يستطيع "حزب الله" أن يبقى ساكناً ومقدماً مصلحة لبنان في أمنه وسلاحه على قواعد الالتزام السياسي والايديولوجي؟ أم أنه لا يستطيع سوى الدخول في المواجهة، مؤكداً بذلك نظرية خصومه بأنه "زناد البندقية الإيرانية في المنطقة".
وفي الحالة الأولى فإنه يؤكد للمرة الأخيرة أن "لبنانيته" أكبر من شروط وقواعد التحالفات الإقليمية والفكرية والسياسية ويربح لبنان معه ويربح هو لبنان والبنانيين. أما في الحالة الثانية فإن الخسائر ستكون غير محدودة على الجميع وبخاصة اللبنانيين، لأن خسارة "لبنانية" حزب الله تعني قيام معادلات جديدة بين القوى اللبنانية والشرائح الاجتماعية المكونة له.
حجم دور إيران الإقليمي
* السيناريو الثالث، وهو الأكثر توقعاً، يقوم على التفاوض بين طهران وواشنطن وقاعدة هذا التفاوض هي كيف تحتفظ طهران بانتاج مصادر طاقة نووية سلمية وفي الوقت نفسه تقديم ضمانات مؤكدة وشفافة حول عدم العمل لانتاج سلاح نووي، من جهة والاعتراف بدورها الاقليمي المناسب مع قوتها الجديدة. وهنا ستتركز المفاوضات حول "حجم هذا الدور الإقليمي" كما يرى مصدر مطلع. ومن الطبيعي أيضاً أن هذا "الحجم" مشدود إلى ثلاث زوايا هي دمشق وحزب الله أي لبنان وحماس أي فلسطين.
ولا شك أن التفاوض فن ولكنه أساساً يقوم على دراسة عميقة وواقعية لموازين القوى. ولأن الإيرانيين متمكنون في فن التفاوض ويعرفون كيف يتراجعون خطوة في اللحظة الحرجة ليتقدموا خطوتين أو أكثر في الوقت المناسب، يعرفون جيداً كيف يلعبون ويستثمرون كل "الأوراق" التي في أيديهم ومنها العراق وغزة ولبنان وسوريا.
وفي هذا السيناريو، فإن دمشق لن تكون طرفاً فاعلاً في المفاوضات وهي كما يرى مصدر مطلع "لن تستطيع الاستفادة من الايجابيات كما تريد أو كما تأمل. لأنها في موضع المتلقي وليس في موقع المشترط. أما "حزب الله" فإن موقعه السياسي سيتعزز لبنانياً دون الارتكاز على بندقية المقاومة، حيث لا بد أن تتناول المفاوضات مستقبل دعم إيران له في إطار دوره المعترف به في المنطقة".
وأهم ما في كل ذلك أن قاعدة أساسية تربط بين كل هذه السيناريوات كما يقول مصدر مطلع، "إن الزمن الكيسنجري الذي قُدم فيه لبنان "هدية" على طاولة ترتيب الوضع في المنطقة قد انتهى، لأن زمن "الهدايا" انتهى، من جهة ولأن دمشق في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، المتمكن في السياسة والمناورة، والعارف جيداً بالتوازنات، والملم بحسابات التقدم والتراجع عند حافة الهاوية، هي غير دمشق في عهد الرئيس الابن بشار الأسد. ولذلك فإن خسائر لبنان وإن كانت كثيرة خصوصاً على صعيد الوقت في مرحلة فورة أسعار النفط الهائلة والمتواصلة فإنها لن تكون قاتلة خصوصاً أن الوضع كله في المنطقة في مرحلة ربع الساعة الأخير!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.